أما وقد دخل اضراب الأسري الفلسطينيين يومه التاسع ألا يوجد لدي العرب شيء آخر يفعلونه من أجلهم, غير خطب وبيانات التضامن, ومناشدة المجتمع الدولي أن يتدخل لإنصافهم وتحقيق مطالبهم؟ وهل يراد لنا أن نكتفي بالصباح والمناشدة, بينما يغدو العمل الجاد من نصيب غيرنا.
(1)
لامفر من الاعتراف بأن رد الفعل العربي ازاء معركة الأمعاء الخاوية التي يخوضها أكثر من ثمانية آلاف أسير فلسطيني في السجون الاسرائيلية, يعد تعبيرا يجسد حالة الوهن التي استشرت في الأمة. ذلك أن صدي الاضراب لم يتجاوز حدود بعض عواصم المشرق. ثم أنه لم يخرج عن إطار التظاهر والمهرجانات الخطابية وبيانات التنديد بما تفعله اسرائيل, ومناشدة الضمير العالمي والمنظمات الدولية لأن تتدخل لانقاذ أولئك الأسري من المصير البائس الذي يعيشون في ظله. وليس من شك في أن التظاهر والاحتجاج مطلوبان ومفيدان إعلاميا, لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا لا يقترن القول بالفعل, ولماذا نكتفي نحن بالقو,ل بينما نطالب الآخرين بالفعل المطلوب والمؤثر؟.
إن اخشي ما أخشاه أن يكون المراد من بعض تلك المظاهرات والمهرجانات الخطابية هو مجرد تسجيل للمواقف بالمجان, وإثبات الحضور في الساحة الإعلامية لابطال الحجة ورفع العتب. لقد قرأت أن ممثلي أحد الأحزاب السياسية المصرية اعدوا مذكرتين قويتين في موضوع الأسري, إحداهما سلمت إلي أمين الجامعة العربية, والثانية إلي ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في القاهرة. الأولي طالبت الأمين العام للجامعة العربية بتحرك دولي ملائم للضغط الاسرائيلي لتحسين أوضاع الأسري الفلسطينيين. أما المذكرة الثانية التي وجهت إلي الأمين العام للأمم المتحدة فقد حملت المنظمة الدولية المسئولية عن الأوضاع الانسانية التي يعيشها الآلاف من الأسري, وبينت أن الممارسات الاسرائيلية في هذا الصدد تعد خرقا فاضحا لكل المواثيق والمعاهدات الدولية, ثم دعت منظمة الصحة العالمية الي التدخل لإنقاذ حياة الأسري.
بعد الجولة الصباحية نظم الحزب في المساء مهرجانا حضره عدة مئات من الأعضاء, وشارك فيه نفر من السياسيين والفنانين والشعراء, الذين عبروا عن تضامنهم مع الأسري المضربين بأشكال متنوعة. وحين انتصف الليل كانت رسالة التضامن قد اشهرت. فانفض السامر وذهب الجميع إلي بيوتهم وقد أراحوا ضمائرهم, بعدما قاموا بالواجب, حتي تلك الساعة المتأخرة من الليل!
في حدود علمي, فإن ما حدث في القاهرة تكرر في دمشق وعمان وبيروت, مع اختلاف في التفاصيل, الأمر الذي يعني أن الجهد علي محدوديته اقتصر علي الجانب التعبوي والإعلامي, وليس الجانب العملي الذي يستصحب تكاليف تعبر عن المسئولية والمشاركة, وليس مجرد التضامن والمواساة.
(2)
هل صحيح أن ذلك غاية ما نملكه ازاء ملف الأسري الفلسطينيين؟
لا أريد أن أقارن بما هو اتعس. أعني بالذين تجاهلوا الموضوع برمته وكأنه لا يعنيهم. ولكن المقارنة تكون بما نرجوه ونستطيعه. خصوصا أن البعض منا تأففوا من العمليات الاستشهادية وحزت في نفوسهم الدماء الاسرائيلية التي كانت تسيل بين الحين والآخر من جراء تلك العمليات, في حين أداروا ظهورهم ـ ولم يلاحظوا ـ نهر الدم الفلسطيني المتدفق منذ أكثر من نصف قرن. ومنهم من اعتبر المقاومة المسلحة للاحتلال ـ التي كفلها ميثاق الأمم المتحدة ـ ارهابا وسلوكا غير متحضر. ومن ثم دعوا إلي ما سموه النضال المدني, السلمي واللاعنفي. وهي رؤي عبر عنها بعض المثقفين وأغلب منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني, التي تبنت هذا الموقف إما اقتناعا به أو لإرضاء الممولين الغربيين.
وجدت أن الاضراب الذي أعلن في الخامس عشر من الشهر الحالي يلبي لهم ما يطلبون وزيادة. فالمضربون داخل القفص الاسرائيلي وتحت السيطرة الكاملة لجنودها, وبالتالي فلا مجال لاصطدامهم بأي اسرائيلي ممن يقلقهم المساس به, اللهم إلا إذا اقتحم عليهم الجنود زنازينهم واشتبكوا معهم لاجبارهم علي وقف الاضراب. وباستثناء الأمريكيين فلن يكون بوسع أحد أن يدعي بأن الاسرائيليين المهاجمين كانوا في حالة دفاع عن النفس!
باختصار, نحن بازاء مشهد يجسد بامتياز حالة التضامن المدني التي لم يكفوا عن الدعوة إليها, الأمر الذي كان يستحق دعما وتشجيعا من جانب دعاة السلام واللاعنف. وقد لفت نظري أن جل هؤلاء ـ إن لم يكن كلهم ـ التزموا الصمت ولم يقولوا كلمة في تأييد ما دعوا إليه, وحث الطرف الاسرائيلي علي الاستجابة للمطالب الفلسطينية, التي تدور حول تحسين شروط الحياة والمعاملة, والالتزام بما قررته محكمة العدل الدولية في اعتبارهم أسري حرب, لا يجوز نقلهم إلي داخل اسرائيل أو محاكمتهم أمام محاكم اسرائيل, الدولة العدو والمحتلة.
حين لاحظت ذلك الصمت من جانب دعاة السلام ومنظمات حقوق الانسان قلت: إذا كان هؤلاء ضد استخدام العنف في المواجهة ضد اسرائيل, وإذا لم يؤيدوا حتي النضال السلمي واللاعنفي ضدها الذي ما برحوا يطنطنون به, فهل كانت دعوتهم الحقيقية إلي الانبطاح امام اسرائيل والاستسلام لها؟!
(3)
قبل أن أحاول الإجابة علي السؤال الذي طرحته حول ما نملكه من خيارات, اسجل اعترافا آخر, خلاصته أننا جميعا قصرنا في التعامل مع ملف الأسري, فلم ندرجه ضمن اهتماماتنا, وظل طوال الوقت ملفا منسيا ومسكوتا عليه, رغم بشاعة الأوضاع التي يعيشون في ظلها. وقد أراد هؤلاء أن يقربوا صورة معاناتهم إلي الأذهان حين قالوا في البيان الأول الذي اصدروه بمناسبة الاضراب أنهم يعيشون في ابو غريب وجوانتانامو الاسرائيليين. وهذه المعاناة ليست وليدة السنوات الأخيرة أو اليوم, ولكنها مستمرة منذ أكثر من ثلاثة عقود علي الأقل. وإذا كانت الفظائع التي شهدها العالم في سجن أبو غريب والأهوال التي سمعنا بها في جوانتانامو قد أقامت الدنيا ولم تقعدها, فلك أن تتصور عذاب8 آلاف أسير فلسطيني تشكل تلك الفظائع والاهوال نمط حياتهم اليومية في السجون الاسرائيلية( للعلم هناك اكثر من ثلاثة آلاف اسير آخر في قبضة الجيش) فإن غزو العراق والأحداث الخطيرة المتلاحقة هناك طيلة العام الاخير صرفا الانتباه عن مجمل الوضع الفلسطيني, الذي صارت اخباره في المرتبة الثانية, الا أن عدم الاهتمام العربي بالموضوع سابق علي احتلال العراق, وأستحي ان اقول إن تراجع ملف الاسري في الاهتمام العربي تأثر بتهوين السلطة الفلسطينية من الامر, واسقاطه من حساباتها في اثناء التفاوض مع اسرائيل, ومن المفارقات اللافتة للنظر في هذا السياق ان الاسرائيليين اثناء مباحثات اوسلو أمنوا عملاءهم من الجواسيس الفلسطينيين الذين تم تجنيدهم( اطلقوا عليهم وصف المتعاونين) في حين ان الطرف الفلسطيني فشل في حل مشكلة الاسري في اثناء تلك المباحثات, وكانت النتيجة ان حظي العملاء بالعناية والرعاية, بينما كان السجن والهوان حظ المناضلين الشرفاء. ولا اريد ان اصدق ما سمعته نقلا عن اكاديمي فلسطيني شارك في اجتماعات عقدت مع الاسرائيليين عام91 في لندن, قبل مباحثات اوسلو. من أن الاسرائيليين ابدوا استعدادا وقتذاك للافراج عن المعتقلين مع بدء تنفيذ الاتفاق واقامة السلطة الوطنية ولكن ممثلي فتح المشاركين في الاجتماع طلبوا تأجيل هذه الخطوة, حيث اعتبروا ان خروج ذلك العدد الكبير من المعتقلين, واغلبهم من عناصر حركة حماس, يخل بالحسابات والتوازنات الفلسطينية الداخلية, الامر الذي يمكن أن يثير عقبات امام تنفيذ الاتفاق.
لست أستبعد ان تكون انتفاضة الاسري الراهنة بمثابة احتجاج ليس فقط علي الاذلال والمهانة التي يعانون منها داخل السجون الاسرائيلية, وانما هي ايضا تبعث برسالة الي السلطة الفلسطينية التي اضطربت اوضاعها أخيرا, وتحاول ان تحرك السكون المشوب بالترقب المخيم علي الاراضي المحتلة في ظل الهدوء النسبي والمؤقت لانتفاضة الاقصي
وليس عندي دليل يثبت ان انتفاضة الاسري اريد بها ان تحرك سكون الخارج بأكثر من تحسين شروط الداخل. لكني أري في ظروف اطلاقها شبها بما حدث في عام87 حيث انفجرت الانتفاضة في خريف ذلك العام, وحركتها آنذاك عوامل عدة, من بينها تجاهل القمة العربية التي عقدت في عمان خلال صيف العام ذاته للملف الفلسطيني.
وقد تكون تلك الاسباب مجتمعة وراء انتفاضة الاسري. لكن ذلك ينبغي ألا ينسينا ان ثمة مشكلة انسانية ملأت المعتقلين وأسرهم بكم هائل من الغضب والمرارة, وهم الذين تضاعفت معاناتهم وارتفعت معدلات إذلالهم بعد اتفاق اوسلو, وبعد تولي السلطة الفلسطينية زمام الامور من الناحية الشكلية في رام الله. ذلك ان الاسر كانت قبل اوسلو تنتظم في زيارة ابنائها دون عوائق تذكر. اما بعدها فقد تعين عليها ان تعبر الحواجز وتلتمس التصاريح وتمر بالعديد من الاجراءات قبل ان تحقق مرادها, وفي حالات كثيرة فإن الامهات والآباء والابناء كانوا يحرمون من زيارة ذويهم لثلاث او اربع او خمس سنوات, الامر الذي يعني ان بعض الاسري علي الاقل كانت لديهم من البداية اسباب اخري للثورة واشهار الغضب.
(4)
إن اسرائيل بسياستها الرامية الي استكمال بناء الجدار الوحشي تستدعي بقوة تجربة نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا. الذي ادانه العالم ولفظه, فسقط معنويا واخلاقيا قبل ان يسقط سياسيا وينضم الي قمامة التاريخ. وفي حيثيات قرار محكمة لاهاي الذي ابطل شرعية الجدار سند قانوني واخلاقي في غاية الاهمية. يمكن ان يركز عليه اي جهد يبذل لتعرية قبح الموقف الاسرائيلي وفضحه, ذلك ان تلك الحيثيات اكدت ان اسرائيل في الضفة الغربية والقطاع دولة محتلة, وابطلت كل ما صدر عنها من افعال او أقيم من مستوطنات او مشروعات فوق الارض المحتلة, وبتحدي اسرائيل ذلك القرار فانها اختارت ان تقف في المربع اللاقانوني واللااخلاقي. وهو ما نبه اليه وحذر منه بعض العقلاء واهل القانون في اسرائيل ذاتها( للعلم قرار محكمة لاهاي كان مشجعا لحفيد الزعيم الهندي الراحل مهاتما غاندي ـ اسمه ارون غاندي ـ الذي يدير معهدا للاعنف يحمل اسم جده في الولايات المتحدة, لكي يقود مجموعة من الناشطين لشن حملة ضد الجدار وضد الاحتلال)
في الوقت ذاته فان انتفاضة الاسري الفلسطينيين توفر فرصة اخري لفضح الممارسات الاسرائيلية في السجون, التي لم تكن الجرائم التي ارتكبت في ابو غريب وجوانتانامو الا استنساخا لها, ويستطيع الاعلام العربي ـ ان وجد ـ ان يلعب دورا اساسيا في هذه المهمة وعند الحد الادني, فبوسع المؤسسات الفلسطينية ولجان العودة ان تعمم المعلومات الخاصة بتلك الممارسات عبر شبكة الانترنت.
واذا اراد المتضامنون ان يفعلوا شيئا مفيدا بدلا من احالة مسئولية الفعل الي الآخرين, فلماذا لا يطالبون مثلا بتعميم الاضراب علي العالم العربي والاسلامي, لمدة يوم علي الاقل يوقف فيه العمل ويشهر الاحتجاج علي الملأ لكي يفضح الموقف الاسرائيلي امام العالم بصورة قوية.
واذا شاء هؤلاء ان يثبتوا جديتهم بصورة حاسمة وتضامنهم القلبي وليس الشكلي او الاعلامي فحسب. فلماذا لا ينضمون الي حملة مقاطعة اسرائيل اكاديميا وثقافيا, بسبب مواقفها اللاإنسانية واللاأخلاقية واللاقانونية في الارض المحتلة. ادري ان هناك من سيلوي شفتيه ويتململ في مقعده عند ذكر كلمة مقاطعة, لكني اريد ان اضع بين أيدي هؤلاء تجربة نفر من المثقفين الانجليز الشرفاء, الذين خاضوا تلك التجربة, ونجحوا في ان يعلنوا موقفا عمليا شريفا ضد همجية الاحتلال ولا اخلاقيته.
(5)
في8/20 الحالي نشرت صحيفة الحياة اللندنية تقريرا مفصلا عن حملة المقاطعة الاكاديمية والثقافية لاسرائيل اعدته الزميلة فاتنة الدجاني, ذكرت فيه ان الحملة انطلقت من لندن, حيث بادر اكاديميان بريطانيان هما ستيفن وهيلاري روز في اوج الاحتياجات الاسرائيلية للاراضي الفلسطينية إبان صيف عام2002, الي نشر رسالة مفتوحة في صحيفة الجارديان حملت123 توقيعا لاكاديميين بريطانيين, دعت الرسالة مؤسسات الثقافة والابحاث الاوروبية والقومية التي يمولها الاتحاد الاوروبي ومؤسسة العلوم الاوروبية الي فرض عقوبات علي اسرائيل, من قبيل قطع التمويل عنها, ما لم تلتزم قرارات الامم المتحدة وتبدأ بشكل جاد في التفاوض علي الحل السلمي مع الفلسطينيين
هذا التحرك اكتسب تأييدا متزايدا, إذ تحولت الرسالة الي عريضة حملت الف توقيع من بلدان متعددة وضمت10 اكاديميين اسرائيليين واكدت العريضة رفض التعاون اكاديميا مع المؤسسات الاسرائيلية الرسمية, بما فيها الجامعات. كما رفضت المشاركة في المؤتمرات العلمية التي تقيمها اسرائيل, او اجراء التعاون البحثي او حتي الاستشاري, وأن شددت علي ان التعاطي مع الاكاديميين الاسرائيليين سيتم علي اساس فردي.
تزامن هذا التحرك مع دعوة اطلقتها الجمعية الوطنية لمؤسسات الدراسات العليا في بريطانيا, دعت فيها كل المؤسسات الي اعادة النظر في علاقاتها الاكاديمية مع اسرائيل فورا. ولحقت بها جمعية اساتذة الجامعات في بريطانيا, التي صوتت لصالح مقاطعة تمويل الجامعات الاسرائيلية, وكانت نتيجة ذلك ان انخفض الي حد كبير عدد الاكاديميين البريطانيين المشاركين في المؤتمرات التي اقيمت في اسرائيل في حين امتنع عدد منهم عن قبول اوراق بحثية لاكاديميين اسرائيليين.
حين يفكر بعض البريطانيين علي هذا النحو, ويتضامن معهم الف اكاديمي, فإن ذلك ينبغي ان يشعرنا بالخجل, ليس فقط لاننا لم نفعل شيئا مماثلا هو في مقدورنا لا ريب, ولكن أيضا لاننا نطرح السؤال الابله: هل بوسعنا ان نفعل شيئا من اجل الاسري غير الشجب والمناشدة؟