يقول ربنا عز وجل في سورة الصافات:
فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ [الصافات: 101-113].
بعدما نجى الله سيدنا إبراهيم عليه السلام من النار التي رماه فيها قومه، منتقمين لآلهتهم التي عابها الخليل عليه السلام وحطّمها، قال لهم إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ.
رحم الله سيد قطب قال: “كلنا سيذهب إلى الله بعد موته، والسعيد من يذهب إلى الله في حياته”.
إني ذاهب إلى ربي سيهدين، جملة كلها استسلام وإذعان وتوكل وإيقان… بل كلها استجداء ورجاء ودعاء من عبد استوحش من الخلق وتعلق كلية بالحق. عبد ألقى به قومه في جحيم نارهم وهم موقنون أنها لن تبقي منه إلا حطاما، فقال لها ربه سبحانه كوني عليه بردا وسلاما.
لم يجد منهم نصيرا ولا وليا، حتى أبوه قال له َاهْجُرْنِي مَلِيًّا، فترك جوارهم وطلب جوار ربه، وهجرهم وذهب إلى مولاه وسأله هداه.
واغتنم حالة الافتقار والاضطرار والانكسار ليطلب منه سبحانه أولادا صالحين يكونون عوضا عن قومه الذين عادوه، وأهله الذين خذلوه. فجاءته البشرى من الجواد الكريم بغلام حليم.
هذا الغلام الذي بعثه الله وجاد به في وقت عصيب، سيؤمر سيدنا إبراهيم عليه السلام أن يسكنه هو وأمه هاجر عليهما السلام بمكة عند البيت الحرام، وأن يتركهما وحدهما في أمانة الله ويستقر هو وزوجه سارة عليها السلام بالشام.
فلم يستمتع الخليل عليه السلام بمواكبة ذلك المولود، ولم يتلذذ برؤيته وهو يترعرع يوما بعد يوم… وكأنما كانت الألطاف الإلهية تهيئه لامتحان عصيب، واختبار رهيب.
وبالفعل يأتي هذا الامتحان في توقيت دقيق، يزيد الابتلاء شدة…
فحينما بلغ هذا الولد السن التي يرتجيها كل والد، وأضحى يسعى في حاجة أبيه، أُمر بذبحه…
وليته قبض روحه كما تقبض الأرواح…
ويا ليته أمر رجلا ذا بأس فقتله واستراح…
لكن سيدنا إبراهيم عليه السلام أُمر أن يذبح ابنه بيده، ويجهز على ثمرة فؤاده بنفسه…
ابتلاء وأي ابتلاء…
ويتوالى سيل جارف من الأسئلة الملحّة المنقّحة…
يا ابراهيم من أعطاك ذاك الولد…؟
أليس الله من وهبك إياه…؟
أليس وديعة استودعها عندك؟
الآن… هو يريد استعادة وديعته، واسترجاع أمانته… فهل عندك اعتراض؟
ماذا تقول يا إبراهيم؟
من عندك أهم؟ النعمة أم المنعم؟ الهبة أم الواهب؟
أحجبت النعمة عنك رؤية الله، أم ما زلتَ لا ترى سواه؟
أ سكن القلبَ غيرهُ، أم ليس في القلب إلّاه؟
ونتساءل نحن كذلك، ونسائل أنفسنا…
من أعطانا الولد، والمال، والبيت، والسيارة…. وما لا نحصيه عدّا، ولا نحيط به حصرا وحدّا؟
بل من أعطانا الروح والجسد؟
أ تملك يا فلان منك شيئا؟
لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى.
فهل يتجاوز الخليل إبراهيم هذه المحنة كما تجاوز غيرها؟
هل يقتحم هذه العقبة الكؤود ويفضي إلى قمة الخلة، فيتخذه المولى خليلا؟
وهل يطاوع الفتى أباه فيذبحه طوعا، أم يرفض فيغتاله على حين غرة قهرا؟
وبشرناه بغلام حليم إنه حليم، وحلمه هذا حمولة عظيمة من خصال الخير، ولذلك قال:
يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ.
ودون أن نطيل الكلام نمضي مباشرة إلى الآية الموالية، وإلى المشهد العجيب الذي لن تعرف البشرية له مثيلا، إلا أن يكون جرما عظيما، أو خطأ جسيما، أو سفكا للدم الحرام بعقوبة تضاهي عقوبة من قتل البشرية جمعاء…
نمضي على عجل إلى قوله تعالى: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ.
يا الله… والله لكأنك ترى الأب العظيم، وقد أمسك بالابن الحليم، وتله للجبين والسكين المشحوذ باليمين…
والله لكأنما ترى دمع القلب يتقاطر، وورود الرضا البيضاء في كل مكان تتطاير، وقد خيم على الوجود سكون عظيم، وكل الكائنات تنتظر…
هل يموت الفتى ويحتظر؟
وهل ينقطع منه البلعوم وينفجر؟
وهل يصبر الأب المسكين ويصطبر؟
أم ترى قلبه الحاني لا يتحمل فينفطر؟
استسلما معا استسلاما كليا، لا اعتراض فيه، ولا حديث نفس فيه…
رضا يهز الرضا، واستسلام للقدر والقضاء…
فجاءتهما البشرى…
يكفيكما هذا الحد من الامتحان، فقد أعطيتما الدليل والبرهان، على صدق الإيمان والإحسان.
وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟
ذبح عظيم يُفدى به سيدنا إسماعيل عليه السلام…
احتفظ يا إبراهيم بابنك اسماعيل، وكما كنت مستعدا لأن تعطينا ابنك، سنعطيك ابنا آخر يكون هو وولده من النبيئين، هكذا نجزي المحسنين.
وستبقى قصتك هذه ذكرى إلى يوم الدين، ويبقى ذبحك للكبش سنة خالدة في المسلمين.
وصلى الله على سيدنا محمد في الأولين والآخرين وفي الملإ الأعلى يوم الدين.