في زمن تُعتبر فيه مهنة الطب رمزًا للرحمة والإنسانية، يُصبح اعتقال الأطباء واضطهادهم وصمة عار على جبين من يدّعون احترام حقوق الإنسان. فالطبيب، الذي كرّس حياته لدراسة وتعلم إنقاذ الأرواح وتخفيف معاناة البشر، يجد نفسه معتقلاً ومعذبًا في زنازين الظلم، ليس لجرم ارتكبه، بل لأنه التزم بمبادئه الأخلاقية والإنسانية ووقف إلى جانب الحق.
السكوت عن جرائم الكيان المجرم في اعتقال الأطباء والتنكيل بهم واستهدافهم وقتلهم، يمثل وصمة عار على جبين الإنسانية جمعاء. إن استهداف الكوادر الطبية والمستشفيات يشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني، الذي يفرض حماية خاصة للعاملين في المجال الطبي والمنشآت الصحية أثناء النزاعات المسلحة.
وفقًا لاتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، تُعتبر المستشفيات المدنية محمية، ويُحظر مهاجمتها أو التعرض لها بأي شكل من الأشكال. تنص المادة 18 من الاتفاقية على أنه “لا يجوز في أي حال الهجوم على المستشفيات المدنية المنظمة لتقديم الرعاية للجرحى والمرضى والعجزة والنساء الوالدات، بل تحترمها الأطراف السامية المتعاقدة وتحميها في جميع الأوقات”.
بالإضافة إلى ذلك، تؤكد المادة 12 من البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 الملحق باتفاقيات جنيف على حماية الوحدات الطبية، سواء كانت ثابتة أو متنقلة، وتُحظر الهجمات عليها. كما تنص المادة 16 من نفس البروتوكول على وجوب احترام وحماية الموظفين الطبيين في جميع الأوقات.
الدور المهني والإنساني للطبيب ليس مجرد وظيفة، بل رسالة سامية يقسم على أدائها بكل أمانة وشرف. كل الأنظمة الصحية في العالم تلزم الأطباء بأداء قسم يعبر عن التزامهم بحماية الأرواح وخدمة الإنسانية دون تمييز. هذا القسم ليس مجرد كلمات، بل عهد يكرّس الطبيب حياته لتحقيقه، حتى في أصعب الظروف. لكن كيف يمكن تفسير تحويل هذه الرسالة النبيلة إلى تهمة يُعاقب عليها؟ وكيف يُعتبر الالتزام بالمبادئ الإنسانية جريمة في أعين من ينتهكون كل القوانين والقيم؟
في غزة، المشهد أكثر قسوة وإيلاماً. المستشفيات، التي من المفترض أن تكون ملاذًا للمرضى والمحتاجين، أصبحت أهدافًا عسكرية. طائرات الاحتلال لا تفرق بين مريض يبحث عن الشفاء وطبيب يسعى لإنقاذ حياته. غرف العمليات تُحوَّل إلى ساحات دمار، والحاضنات تُنتزع منها أرواح الخدّج قبل أن يُكملوا يومهم الأول. الكوادر الطبية، التي كرست حياتها لخدمة المرضى، تُستهدف بشكل مباشر في انتهاك صارخ لكل المواثيق الدولية.
غزة اليوم ليست فقط رمزًا للصمود، بل أيضًا شاهدة على انهيار القيم الإنسانية عندما يُترك المجرمون دون محاسبة. كيف يمكن للعالم أن يقبل باعتقال الطبيب على يد الظالم بينما يؤدي واجبه النابع من قسمه المقدس؟ وكيف يصمت على استهداف أولئك الذين يمثلون آخر أمل للضعفاء والمظلومين؟
إن العالم، بكل مؤسساته، يقف اليوم أمام اختبار حقيقي؛ إذا لم يتحرك لإنقاذ الأطباء وحماية المستشفيات، فإنه يُقر ضمنيًا بأن الظلم والقتل يمكن أن يمرّا دون عواقب. هؤلاء الأطباء هم الجنود الحقيقيون للإنسانية، واستباحة دمائهم والسكوت عن الاعتداء عليهم ليس فقط اعتداءً على كل ما هو نبيل ومقدس، بل يمثل انهيارًا للمنظومة الأخلاقية التي يرتكز عليها العالم.
وأية منظومة بقيت قائمة، إذا كانت الإنسانية قد تحطمت، والمبادئ أصبحت مجرد كلمات فارغة على لسان من يزعمون أنهم حماة القانون والعالم؟!
لقد كشفت زيفها وعرتها حقائق الواقع الشاهد..