كانت غزوة بدر أول مواجهة بين المسلمين والمشركين، وأول قتال، وأول انتصار، وذلك في رمضان من السنة الثانية للهجرة، وقد خلد القرآن الكريم ذكرها بالحديث عنها في آيات كثيرة، فاستحقت بذلك أن تكون محطة أنظار المسلمين عبر الأزمان، وأن تكون الملهمة والمستنهضة والمحفزة لهم أثناء مواجهتهم لأعدائهم، وما خلت الأمة الإسلامية من أعداء راموا كسر شوكتها واحتلال أرضها والنيل من عزائم شبابها وإخماد إرادتها، ففي الماضي زحف التتار والمغول والاحتلال الصليبي والاستعمار الغربي، وفي الحاضر نرى الاحتلال الصهيوني لفلسطين ومحاولة تشتيت البلدان الاسلامية واستغلال ثرواتها وكبح جماح قوتها ونهضتها. وبتواصل العداء تستمر الأمة في استحضار المحطات النيرة من تاريخها لكي تلهم جيل التحرير والمقاومة معاني الثبات والصبر والتوكل على الله تعالى، فالفئة الثابتة لا تهزم من قلة، ولا تضع أسلحتها حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، ولا تتفرق بها السبل مادام حبل الله ناظمها وجامعها وموحدها.
وبهذا، فغزوة بدر بمثابة رذاذ الأمل الذي لا يخالط الأفئدة إلا ليقدح زناد حرارتها وإيمانها ويقينها في وعد الله للمؤمنين بالنصر، ولا يسري في أوصال المؤمنين إلا ليشحذ عزائمهم ويستنهض شرارة الصمود والبطولة والبذل والتضحية في خطواتهم نحو النصر والتمكين، فالنصر لا يأتي من كثرة، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة إذا استجمعت مسببات النصر المعنوية واجتهدت، ما أمكنها الاجتهاد، في إعداد الخطط وحشد العتاد والاستفادة من الحكمة والتجربة البشريتين، فمن كان يظن أن ثلاثمائة وأربعة عشر رجلا معهم فرسان سيغلبون ألفا معهم مائتا فرس؟
ومع الإعداد المعنوي والمادي نظرة قلبية ثاقبة يتجاوز شعاع أفقها الدنيا الفانية ليبسط أنواره في طلب الآخرة واستدعاء ما عند الله بالدعاء والمناجاة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من دعاء ربه حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر رضي الله عنه وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال: 9]، فخرج وهو يقول: سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ [القمر: 45]. وقبيل المعركة أشار الحباب بن المنذر رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل ماء بدر خلفه، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم مشورته وأخذ برأيه وغير مكان نزول جيشه.
وباستحضار هذه المعاني، معاني الثقة في الله تعالى والتشاور والإعداد والدعاء والصبر والإقدام، تكون غزوة بدر هي صيحة الأمل التي ركبت صهوة جوادها لتصول وتجول في ساحة معركة بناء الأمة وتحريرها، مشجعة لجند الله من النساء الفارسات والرجال البواسل، في جميع الأزمنة، أن يا خيل الله ازحفي وأقبلي فالنصر غدا قاب قوسين أو أدنى، أو دونه الشهادة والفوز بالجنة ونعم المأوى.
ونسجا على منوالها واستفادة من دروسها وعبرها تكون هذه الغزوة العظيمة قد ساهمت في استنهاض عوامل القوة الكامنة في ضمير الأمة وإلهام هذا الجيل الذي يقاوم على جميع الجبهات، السياسية والفكرية والتربوية والميدانية، أسباب الإبداع والاجتهاد والثبات، وإثارة الانتباه إلى أن قطب الرحى في معركة البناء والتحرير يقوم على فك أغلال الإنسان من العبودية لغير الله تعالى وتربيته على محبته عز وجل، وذكره، والجهاد في سبيله، وابتغاء ما عنده وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الشورى: 33].