انطلقت الحافلة في صحراء مقفرة، توارت البنايات شيئا فشيئا، فلم يعد ُيرى في المدى سوى كثبان رملية كتلال من ذهب.
لم يكن في حسبان “أم عائشة” هذه الرحلة المثيرة التي تم برمجتها في سلسلة المزارات الإسلامية المقرر زيارتها وتفقدها في برنامج العمرة.
وهي في طريقها إلى المكان الذي يبعد عن المدينة المنورة قرابة الساعة وأكثر، كان الوقت كافيا لتَدفق أحاسيس تجمع بين حنين وذكرى وعبرة.
ووصلت الحافلة إلى المكان المنشود؛ إنه مسجد “العريش” حيث كان الاستعداد لغزوة بدر، ومقر قيادة الحبيب صلى الله عليه وسلم، والمكان الذي استظل فيه من وهج الشمس. كان موقعه فوق تل مرتفع يشرف على ساحة المعركة.
صلت “أم عائشة” في المسجد صلاة استحضرت فيها شرف المكان، وعظمة من صلى فيه، ووطئت قدمهم أرضه.
تنسمت عبق المصطفى، واستشعرت تهممه في ذاك اليوم، وترقب الصحابة ووجلهم، وهم مقبلون على معركة حاسمة بين الحق والباطل، معركة حركت بوصلة التاريخ، وغيرت موازين القوى الطاغية، بل حطمتها.
مكان أحست فيه براحة منقطعة النظير، وكأن هذه الدوحة وسط الصحراء، تهب القلب السكينة والطمأنينة فتصبهما عليه صبا.
وتابعت الرحلة لتشرف ومن معها على مكان الغزوة المترامي الأطراف.
رأت بعين قلبها الحبيب صلى الله عليه وسلم وهو يرص الصفوف ويشحذ الهمم، ويُري أصحابه مصارع القوم..
تبدى لها مشهد يصول فيه سيدنا علي ويجول، رأت الزبير في كر وفر وشجاعة لا تضام..
وفي الآفاق تراءى غبار سنابك الخيل يشع في المدى.. تخيلت الحبيب بن المنذر قرب الآبار وهو يعرض رأيه السديد.
وهناك شاهدت أسماء تحمل القرب، ورفيدة تضمد الجراح، وعائشة تسقي العطشى..
وبدا المكان يموج بأنوار طلعتهم وطلعتهن.. من ذُكر اسمه ومن لم يُذكر، فأحصاهم الله وكتبهم في الملكوت الأعلى ونسيهم البشر.
“وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ” (الأنفال 22).
شاهدت التاريخ وهو يُكتب من جديد على يد البدريين الذين غفر الله لهم ما تقدم وما تأخر، فازدانت الدنيا بما قدموا وبذلوا.
هنا كانت الآبار، وهنا دارت الحرب رحاها، هنا في السنة الثانية من الهجرة، في السابع عشر من رمضان حدث الفتح المبين.
ثم انعرجت الحافلة إلى مرقد شهداء بدر، حيث ظهر شاهد يحمل أسماء الأقمار الأربعة عشر، والذين نالوا الشهادة، وكتب لهم السبق والنصر.
بقيت آثارهم في صحراء مترامية الأطراف، كنجوم مضيئة في سماء حالكة السواد، يتلألئون ويسطع نورهم فيذكر البشرية بأنهم كانوا
هنا يعيدون دورة الحياة إلى نصابها، إلى نصاب الحق والتوحيد والإيمان.
أما جحافل الكفر فلم يبق لها أثر، بل بقيت قصصهم عبرة لمصير القوم الظالمين.
عاشت “أم عائشة” تفاصيل ذكرى لم تغب عن بالها، ولكن المكان أيقظها وبث فيها بواعث ايمانية خالدة.
تساءلت مع نفسها وهي تغادر مكانا ما غادرها، عن حجم ما قاسى المصطفى صلى الله عليه وسلم حتى تصل إلينا دعوة الحق، عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، فكان حقا علينا الدعاء لهم والترضي عنهم في كل وقت وحين.
في دعاء يربطنا بهم ويجمعنا بالأولين والآخرين من الدعاة والعاملين لخدمة الإسلام والمسلمين أجمعين، ولكافة خلق الله من المؤمنين السابقين واللاحقين.
رضي الله عن أهل بدر، وألحقنا بهم غير مبدلين.
غزوة بدر.. من وحي زيارة المكان
نشر بتاريخ
نشر بتاريخ