بقلم: ذ. محمـد عبـد الرحمان بــن الطالب
مقدمة
يظن الناس عامة- والمسلمون خاصة- أن بلدانهم محصنة من الاجتياح الصهيوني الغاشم، في الوقت نفسه يعتقدون أن الأرض الوحيدة المغتصبة من طرف هذا الكيان المزعوم هي فلسطين، وبالتحديد قطاع غزة؛ فترى حكام الهزيمة يرفعون ألسنتهم بالتنديد بالمجازر المقترفة في حق المدنين من الرجال والنساء والرضاع والأجنة في بطون أمهاتهم، ويبطنون المساندة الرسمية بصمتهم الواضح، ويخنعون في توقيع اتفاقيات باسم السلام، بل هو تسليم تطوعي لمفاتيح بلدانهم، واستسلام خاضع للعدو لأنهم لا يأمنون مكر رعاياهم لما أشاعوا فيهم من الفساد ولما مارسوا عليهم من الاستبداد.
أما الشعوب الصادقة فما استطاعت أن تغير هذا المنكر الشنيع الذي حل بها، فاصبحت تؤثر المقدسيين الأحرار على نفسها؛ بقلبها المجروح وبصوتها المبحوح، بعد أن صُفّدت أيديها وسلبت إرادتها بعد أن فوضت لحكامها إدارتها. أصبحنا نحتار في تحديد الشعوب الإسلامية العربية المتضررة، هل تلك التي اختلت إرادتها في كيانها، أم تلك التي احتلت إدارتها في أرضها؟ يظهر أن الشعوب كلها محتلة، فمن لم تحتل ”بأخيارها” احتلت بأغيارها، مع اختلاف في كون المقدسيين يقاومون الصهاينة المسلحين، وباقي الشعوب تساوم الواقع المستساغ. غير أن الحقيقة التي لا مراء فيها هي، أن فلسطين لم تحتل بعد، إن تمكن العدو من اقتحام مسجد قبة الصخرة، فالمسجد الأقصى هو الصخرة التي ستتكسر عليه أحلامه آجلا أم عاجلا!
فلسطين غير محتلة:
يظهر جليا أن الأرض الوحيدة التي لم تحتل بعد من طرف الشرذمة الصهيونية هي فلسطين أرض النبوة، وأن الوحيد الذي لم يطبع مع هذا الكيان المجرم هم أولئك المرابطون في غزة، على ثغر هذه الأمة المنحطة. غزّة غُرّة العرب وعِزّة المسلمين! أما ما تتحسر عليه أيها المؤمن الصادق من ذل الهزيمة، وما تتلذذ به أيها الصليبي الحاقد من نشوة الانتصار الزائل، وما تتأسف عليه أيها اليساري الفاضل من تعذر التحرر وتقرير المصير، وما تخاف عليه أيها الليبرالي الجشع من كساد تجارتك من جراء ”الصراع العربي الاسرائيلي”، وما تحلم به أيها الحاكم المهرول للتطبيع من حل الدولتين الأصيلة والمغتصبة، وما تتصوره أيها المحلل اللائيكي أن الحسم بين الخميسين: (الجيشين) يكون للترسانة لا للبسالة، وما تراه أيها الوصولي من فصل بين مأساة غزة ومسألة تازة. فهذه المعتقدات ما هي إلا من أساطير المتأخرين!
أسطورة الراية العِمِّية 1:
كلها ردود أفعال واضحة، وزلات ألسنة فاضحة، واعترافات ضمنية مكشوفة، أكدت لنا بجلاء أن ما كنا، ولا نزال، نرمز إليه بالدولة الوهمية، والكيان الافتراضي، ونتحاشى ذكره باللسان لتنزيه مجالسنا من اللغو، ونخشى كتابته بالقلم احترازا من تهمة معاداة السامية؛ أصبح كيانا واقعيا معيشا، وأضحى دولة حقيقية معترف بها. وهنا يكشف سر طغيان هذا الكيان في وجداننا وعدم اكتفائه بتطبيع الكائنات البشرية بخرافة شعب الله المختار، بل السعي إلى تبضيعه بخزعبلات الانتساب بالبنوة إلى الربوبية- تعالى الله عز وجل عما يصفون- واستعمالهم سلعا رائجة في فرض التطبيع مع الكيانات الدولية الخانعة، بل اعتمدوهم سفراء دائمين لديهم، أو قائمين على مكاتب الاتصال لتضليل الرأي العام. ومن النُّكَت المعاصرة، أن تقايض الدولة سيادتها بالحماية الوهمية لهذا الكيان العنكبوتي الذي يدعي أنه يملك جيشا لا يقهر؛ جيش غثائي أنهكته حجارة الأطفال، وأجهدته العمليات الاستشهادية الفردية، وأعيته المقاومة الباسلة، جيش حُقَّ له أن يعزل عاجلا، جيش حُقّ له أن يهزم آجلا.
إصح يا أيها المطبع من أحلام يقظتك، وأعمل عقلك المعطل ولا تستأمن الأوهام، وانصر ربك بجهودك المشروعة ينصرك بوعوده الشرعية؛ واتق الله في خلقه لينصروك ظالما أو مظلوما، واتعظ بأحداث التاريخ واعتبر بوقائع الزمن، لتستوعب أن هؤلاء المغضوب عليهم عصوا الله وقتلوا الأنبياء وحرفوا الوحي.
إستحضر إرادة الله تعالى وسنته عز وجل في التداول الحضاري، ونوامسه سبحانه في التدافع على الحق، فلا يغرنك بياض الراية المطموسة المعالم، والمدنسة زرقتها لنجمة داود -عليه السلام- السداسية، والشاهدة على جرائمهم الثنائية الثلاثية الأثافي لديهم؛ الثلاثي التاريخي المتمثل في عصيان الله بأفعالهم، وغدرهم للأنبياء بالقتل بردود أفعالهم، وتحريفهم للتوراة للتشريع لأعمالهم الشنيعة. والثلاثي الجغرافي المرتكز على تضبيع العباد بالوعيد الواهي، وتبضيع البلاد بالغصب، والتطبيع لتحقيق الحلم المستحيل لمؤسس كيانهم تيودور هرتزل(1860م-1904م)، في فلسطين أو الأرجنتين أو أوغنذا، وإنجاز وعد بلفور في 1917م على أرض فلسطين مرحليا، في أفق توسيع الكيان المزعوم الذي يمتد من النيل إلى الفرات. لكن هيهات، هيهات!!
أسطورة الغاية المعتمة.
استوطن أرض فلسطين، عنوة عن أهلها، كيان لقيط متعدد الجنسيات المشردة في العالم، وخليط غير متجانس من عقائد الصليبين المتعصبين، واليهود المتطرفين، وآخرين لم تحدد هويتهم إلا أنهم حاقدون على الإنسانية، ومعاندون للفطرة ومعترضون على أمر الله. تقودهم عصابة مجرمة لا علاقة لها باليهودية، وتتخذهم ذروعا بشرية لتحقيق مآربهم، في كيان أسس على الأساطير المدسوسة في الإنجيل والثوراة، وعلى أباطيل برتوكولات حكماء صهيون، وعلى التنبؤات الكاذبة لأبيهم الروحي، والوعود الملغمة للصليبية الإنجليزية. يزعمون أنهم سيعودون إلى أرض الميعاد أو ”أرض إسرائيل”-التي يدعون أنها مكتوبة عندهم في التوراة- تحت قيادة ”المسيح المخلص” والتي ستشهد نهاية التاريخ؛ فهم بذلك يستعجلون نهاية تاريخهم. أما تاريخ نهاية البشرية فعلمه استحوذ عليه خالق الكون وعالم الغيب والشهادة. وسيكون عليهم وعد بلفور وعيدا فوريا لنهايتهم، وتوعدنا ناجزا لغطرستهم، هذا ما أخبرنا به العزيز الحكيم في قوله: وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا. فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا. ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا. إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ۚ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًاۖ[سورة الاسراء: 04-07].
يظهر، والله أعلم، أن هذه الملحمة التاريخية وهذا التدافع الجغرافي على وشك الانتهاء، يستعجل هذه النهاية بنو إسرائيل المعاندون ويستبطئها المسلمون المتقاعسون- ووعد الله آت لا ريب فيه- يتحقق استعجال العدو بحشده شتاته في بقعة واحدة، مخالفة لأمر الله الذي كتب عليهم الجلاء في الأرض، بينما يتوقف انتصار المسلمين على تصديق الوعد الرباني بالتمكين، والبشارة النبوية بالانتصار. والعمل لأجل تحقيق شرط النصر الوارد في قوله تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِۖ[سورة الحج: 40-41].
لقد ضيع المسلمون المفتونون مفاتيح القدس الشريف، التي تسلموها من القائد الرباني صلاح الدين الأيوبي-رحمه الله- فمن تكن تلك القيادة الربانية والمجاهدة، القادرة على جمع قلوب المسلمين المنافرة على قلب رجل واحد، وتقريب عقولهم المتنازعة على مقصد واحد وإن تعددت الوسائل. قبل استرداد المفاتيح المقدسية؟
خاتمة الملحمة:
يتألم الكيان المتعدد الجنسيات والمختلف المعتقدات، أكثر مما يألم المسلمون المتفرقون، آلام العدو تكمن في فقدان طعم الاستقرار، والتهديد بالاندثار، فلم تعد تنفعه القبة الحديدية العسكرية، ولا الجدار العازل، ولا السيطرة على وسائل الإعلام، ولا عولمة الاقتصاد، ولا علمنة القضية. ولا يغنيه التأييد الغربي المشهود ولا الصمت العربي المكشوف، من استعجال قطف ثمار الانتصار على المقاومة الفلسطينية المجاهدة مند أن وطئت قدماه الأرض المقدسة. بينما تتمثل آلام المسلمين في كثرة عددهم، وغثائية حكامهم، بما كسبت أيديهم جميعا؛ شعوب مقهورة تكاد تشكك في انتصارهم على عدوهم بين يدي الساعة، ودب إليها اليأس من استجابة الدعاء على الظالمين والتمكين للمظلومين، دون أن يأبهوا لمسوؤليتهم فيما آلت أحوالهم- والله أعلم بنواياهم- قبل مقام سكان الضفة الغربية وقطاع غزة. يا أسفاه! على بعض صناع القرار لدينا؛ يمتلكون قلوب اليهود الحاقدين وعقول الصهاينة المجرمين… وقد أرنا الله تعالى سوء عاقبة بعضهم. للعبرة لا للشماتة.
تأخير حل القضية الفلسطينية مسؤولية الجميع، وكذا كل قضايا الأمة المؤجلة والتي تحولت حدودها إلى حقول ألغام، وزراعة للقنابل القابلة للانفجار بين الجيران. ملحمة الأقصى عقائدية صرفة تحت الغطاء السياسي العالمي، والدعم الاقتصادي العلماني، والحشد الاجتماعي العلني، ابتليت بها الشعوب الغاصبة وفتنت فيها نظريتها المغتصبة، وتموقعت بين مطرقة سوء إدارة الحكام وسندان مأساة إرادتهم. لقد ألهتنا اللعبة الإسرائيلية، التي وجهت اهتمامنا بمقاومة أشباح الصهاينة في فلسطين، وصرفته عن مقاومة الصهاينة الحقيقيين في ديارنا الذين صنعوا قواعد أنظمتنا السياسية، وصاغوا قوانيننا التنظيمية؛ في مناهجنا التعليمية، ومخططاتنا التنموية، وممارستنا الدينية.
يكاد يدخل كل بيت مسلم صهيوني متخف ولو لم يرتد القبعة اليهودية، يتم تلقيننا مؤامرات تفكيك أسرنا، ويشيع فينا الإلحاد، ويروج بيننا المخدرات، ويشجع الفساد الإداري والظلم القضائي، ويعمق الفوارق الاجتماعية، ويستأمن الخونة ويولي السفهاء، ويدس الإسرائيليات في النصوص الشرعية، ويوسع الخلاف بين المذاهب الفقهية والمدارس الفكرية… فبذلك يبطل سفر ذهابنا إلى إصلاح ذات بيننا، ويبعد طريق إيابنا إلى الحق وإنابتنا إلى الله تعالى تحقيقا، لا تعليقا، لسنة الله في خلقه: إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ[سورة الرعد: 11].