فاعلية المرأة والتغييران الذاتي والمجتمعي في مشروع الإمام عبد السلام ياسين

Cover Image for فاعلية المرأة والتغييران الذاتي والمجتمعي في مشروع الإمام عبد السلام ياسين
نشر بتاريخ

مقدمة

إن المتأمل في قضية المرأة في الفكر العربي والإسلامي المعاصر، سيجدها بين موقفين متضاربين: 

الأول: يتبناه متشددون منتسبون للإسلام، لكنهم انحرفوا عن تعاليم الشريعة الإسلامية في معاملة النساء، حيث انتشرت بينهم أحاديث بعيدة عن الفهم النبوي السليم، وفتاوى متشددة انتهت بحبس المرأة في ركن الجمود والهوان، بدل الفاعلية والإبداع.

الثاني: لا يقل غلوا عن الأول، فهو يدعو إلى تقليد الغرب، حتى تجاوزت دعوته حدود الأخلاق والفضيلة، مستندا إلى ضرورة تمتعها بحقوقها المهضومة وعلى رأسها المساواة مع الرجل، متناسيا أنها تختلف عنه في البنية الفيزيولوجية والنفسية، وفي الوظائف التربوية والاجتماعية.

وهذان مظهران لا يقرهما العقل ولا الدين، ومما يجب لفت النظر إليه أن المظهر الأول أشد خطورة على المجتمع من الثاني، لأنه ينسب إليه ما هو منه براء، فالخلل في العقل المسلم لا في الدين الإسلامي.

ويعتبر الأستاذ عبد السلام ياسين، من أبرز من تصدى لهذا الأمر، حيث ألف كتاب “تنوير المؤمنات”، وفيه حاول إبراز موقف الإسلام الحق من هذه القضية الخطيرة؛ قضية المرأة ودورها الرائد  في الحياة العامة والخاصة، وحاول من خلال هذا العمل تجاوز عثرات مواقف بعض الغلاة من دعاة المسلمين، التي أصبحت سلاحا بيد فئة المغربين العلمانيين واللادينيين يضربون به عِرض الدين الإسلامي. والمميز في مشروعه هذا، اعتماده على أصول الشريعة الإسلامية (النصوص القرآنية والأحاديث

النبوية)، مع استحضار فقه الواقع.

فما تصور الإمام ياسين لقضية المرأة المسلمة؟ وما الأدوار المنتظرة من هذه الأخيرة لتصبح رائدة في مجتمع يموج بالفتن؟

المرأة والتغيير الذاتي

إن أي دعوة إلى التغيير غاب عنها مطلب تغيير الذات أولا، تبقى مجرد ادعاء، سرعان ما تنجلي شرارتها مع هبوب أول ريح ابتلاء، فالله تعالى يقول: إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ (الرعد، 11)، وقد ورد حديث قدسي في تفسير هذه الآية، يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: “وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وارْتِفَاعِي فَوْقَ عَرْشِي، ما من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على ما كرهت من معصيتي، ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي إلا تحولت لهم عما يكرهون من عذابي إلى ما يحبون من رحمتي” (1).

وقد تنبه الإمام المجدد إلى هذا المطلب، وعبر عن ذلك بقوله في مقدمة كتابه تنوير المومنات: “بل سعادة هذا الكتاب أن يوقظ الواسن ويحرك الساكن لتمسك المومنة القارئة، والمومن الباحث، بتلابيب نفسه وهواه، ويحمل فكره على المكروه الذي تهرب منه النفس الراكدة في خبثها. ألا وهو مواجهة الذات بالسؤال المليح الصريح: أي إيمان هو إيماني؟ وما قضيتي مع ربي؟ ضاعت ونُسيت في ضجيج الحركية فهل إلى تلافي الأمر من سبيل؟ أم إن المنطلق الأول كان خطأ حين اندفعت في حماس أزعم أني مهاجر إلى الله، ناصر لدين الله، مجاهد في سبيل الله، بينما قلبي هواء وخواء” (2).

فتغيير الذات هو ما بدأ به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في دعوته خلال الفترة المكية خصوصا، لأن بهذه الذات يُصنع الرجال والنساء الذين سيغيرون العالم.

“إنه السؤال المزعج الذي يلتقي بقلق المؤمنة والمؤمن، ما صدقهما مع الله وما يقينهما مع الصادقين؟ فهل من رحلة إلى السعادة لا يكون في طريقها عقبات ولا امتحان ولا إرادة ولا اقتحام؟ نم هادئا أو اصحب صفحات هذا الكتاب بصبر، واقرأ مقصده من عنوانه، فالنية -صححها الله- أن يتنور عقل المؤمنات والمؤمنين بعلم تزكية النفوس، مقترناً مسايراً قائداً لحركة إنصاف المرأة في قضاياها. ولتسلك الحركة على ضوء علم التزكية في نظام عمل التزكية. تزكية نفسي وتطهير قلبي الذي به ألقى الله يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم” (3).

وتعتبر “تزكية النفوس” من المفاهيم الصوفية، فهناك “ألفاظ جرى رسمهم بالتخاطب فيها، فيما يتذاكرونه أو يذكرونه” ويرى حجة الإسلام الإمام الغزالي أنه “لا حرج في ذلك عقلا ولا شرعا” (4)،  فكل من رقى عندهم في سلوكه إلى الله عن طريق مجموع من الوسائل التربوية كالأوراد والنوافل، يسمى عارفا بالله. فعلاقة المعرفة هنا لا ترتبط بما هو عقلي أو حسي، كالمعرفة العقلية والتجريبية، وإنما لها علاقة بارتباط العبد بربه وارتقائه في درجات القرب منه. وقد بين الغزالي رحمه الله، حكم طلب وسلوك هذه  المقامات بقوله: “فهي درجات ومقامات ومنازل ومراتب، ومنح يخص الله تعالى بها من يشاء من عباده، من غير أن تنال بطلب ولا بحث ولا تعليم” (5)، لكن ما يُخشى على العبد – حسب الغزالي – الغفلة عن هذه المعاني والابتعاد عن العمل بما علم، فيصبح “حاله معلولا، إما مفتونا بدنياه، أو محجوبا بهواه، وربك على كل شيء قدير” (6).

وهذا ما يخشى على الراغبة في السلوك إلى الله تعالى، فتضيع منها معرفة الله في وَحَل الدنيا وهوى النفس، وتلقى الله صفرا،  فأول تغيير يجب أن تتهمم به إذن هو تغيير النفس، فكل شخص في هذه الدنيا مشغول بأمر من الأمور الدنيوية من كسب، أو وظيفة، أو طلب علم.. وكل يعتقد أن سعادته “في ذلك الشيء الذي هو مشغول به” (7)، فيكد في البحث عن تلك السعادة مرات ومرات ولا يجدها “وهكذا يواصل البحث، حتى تظهر الرحمة وجهها دون حجاب. وبعدئذ يدرك أن ذلك لم يكن الطريق الصحيح” (8).

لكن ما وسيلة الإمام لتحقيق ذلك؟ 

وسيلته كانت في وضع برنامج للسالك والسالكة إلى طريق الله تعالى، سماه “يوم المؤمن وليلته”؛ وهو برنامج تربوي وتعليمي، من صلاة وقيام وذكر وتلاوة للقرآن، تواظب عليه المؤمنة ما دامت في هذه الدنيا.

هذا هو أساس التغيير ولبه في نظر الأستاذ عبد السلام ياسين، تغيير يبدأ من الذات، بصناعة نفس قوية قادرة على تحمل ما هو آت، وهي سنة كونية في طريق كل الدعاة، من تمسك بها نجا ووصل، ومن فرط فيها ندم وتحسر.  فالآمال معلقة اليوم أكثر مما مضى على المرأة المؤمنة، الرائدة، المتطلعة  دوما لمعالي الأمور، حاضرة ومتغلغلة  في كل الثغور، من أجل تجديد بناء صرح الأمة، تجديدا روحيا وعقليا، ماديا ومعنويا، وهي ليست بالمهمة اليسيرة، بل تحتاج إلى  صبر وثبات  وجهد، مساهمة بذلك في صناعة أجيال طليعة إسلامية ربانية قائدة متجددة، على الواجهتين الأسرية والمجتمعية.

لكن، هل دعوة الإمام ياسين تنحصر في التغيير الذاتي فحسب؟ 

 المرأة والتغيير المجتمعي

إن كل عملية تغييرية مجتمعية انحصرت في تغيير الذات بتزكية النفوس والقعود عن مخالطة الناس تبقى قاصرة عن بلوغ الهدف، وهذا ما تنبه إليه الإمام إذ لم تنحصر دعوته في تغيير الذات فقط، بل دعا أيضا إلى تغيير الأوضاع الاجتماعية التي استشرى فيها الظلم والفساد بين العباد، تغيير تشارك فيه المرأة القوية، المتطلعة إلى دورها الريادي، إلى جانب شقيقها الرجل، وفي هذا الباب يقول رحمه الله: “كيف تنظر المؤمنة المستيقظة بإيمانها منذ قريب إلى نفسها ومهمتها في العالم الموَّار؟ شخص متواضع ضعيف منشغل بمشاكل الحضيض اليومية، منصرف إلى شأنه الخاص يعاني في صمت؟ أم مؤمنة مرشحة للعضوية في الحركة الإسلامية، وإرادة ماسكة متماسكة مع إرادات المؤمنين والمؤمنات يعنيها مصيرها إلى الله في الآخرة كما يعنيها مصير أمتها؟ تتجاوز همتُها الأفقَ الضيق المحدود الذي رسمه لها تاريخ الإسلام التقليدي، أم تتطلع لاقتحام مجالات جهاد البناء والتغيير حاملة مع الحاملين والحاملات رسالةَ الإسلام وكلمته إلى العالم؟” (9).

إن متابعة المرأة للشأن العام، ومساهمتها في التغيير ثابت بالنص القرآني في قوله تعالى: وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍۢ ۚ يَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ ۚ أُوْلَٰٓئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ ٱللَّهُ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (التوبة، 71). فالولاية بين المؤمنين والمؤمنات لا تقتصر فقط على الأخوة والمودة والتعاون المالي والاجتماعي، بل تتعداه حسب محمد رشيد رضا إلى “ولاية النصرة الحربية والسياسية” (10)، فرغم أن الشريعة أسقطت عن النساء وجوب القتال بالفعل، إلا أن نساء النبي وأصحابِه كن يخرجن في الغزوات مع الرجال يسقين الماء، ويجهزن الطعام، ويضمدن الجراح، ويحرضن على القتال.  

لكن أول جبهة للمرأة هو بيتها، فمن البيت الإسلامي ينطلق التغيير، وبفضل قوة اللين والرحمة تبعث المؤمنة بعوثا في طليعتها البنات والبنون المهيؤون لنصرة دعوة الله بعدما أيقظت فيهم هم مستقبل الأمة. وفي هذا الباب يقول الإمام ياسين رحمه الله “لكن التبرج الكلي هو خروج المرأة من برجها الإسلامي مظهرا ووظيفة وأخلاقا ودينا، هو ميلها عن الإسلام وخيانتها لمهمتها الحربية القتالية في صد الجاهلية والدفاع عن الإسلام وإرساء ركائزه وتشييد بنيانه، إذ البرج الذي خصصه القرآن وجسدته السنة للمسلمة ليس سجنا وخنقا وجدرانا، إنما هو موقع من مواقع الدفاع عن العقيدة” (11)، نعم بيتها ليس سجنا كما يزعم دعاة التنوير، بل برجا وحصنا حصينا ضد كل ما من شأنه إفساد الفطرة. وفي نفس السياق يقول الإمام رحمه الله: “ويكون برج المؤمنة مشتلا لتربية الشجر الطيب، ومنطلقا للبعوث الغازية، لا مجرد ملاذ في الأحضان، ومرفأ للمراكب المنكسرة، ومطعم ومضجع” (12).

ولتحقيق ذلك على المرأة أن تشارك في الدعوة إلى الله باعتبارها من أوجب الواجبات في حق المؤمنات، إذ بهن يستقيم البيت وتنتظم التربية، “فإن كان تفرغ الأمهات لتنشئة الأجيال المؤمنة وحفظ الفطرة سليمة من أسبق المهمات المستقبلية، فإن تربية الأمهات تكون الشرط  الأسبق والمطلب الأوثق. وذلك ما يجب أن تفرغ فيه جهود المؤمنات المنتسبات للدعوة ليسددن ثغرات تركها في نسائنا الجهل الموروث، والفقر المثبط، ومرض الفطرة” (13). من هنا تكتسب المرأة الريادة في المجتمع، لما حباها الله به من خصوصيات العطاء مساهمة في البناء.

كما يدعو الإمام رحمه الله تعالى إلى استنهاض همم النساء وتحفيزهن للمشاركة الفعالة، وإثبات دورهن الريادي الطلائعي، وتشكيل قوة اقتحامية تستطيع بها المرأة الخروج من ربقة المظلومية والفقر والعوز والحاجة، متجاوزة عوائق الأنانيات والذهنيات المتخلفة، مشاركة في حل قضايا الأمة مع الرجال متزعمة لا تابعة. مستنيرة بمشعل الصحابيات المجاهدات، أمثال أم سليم التي “اتخذت يوم حنين خنجرا فكان معها فرآها طلحة فقال: يا رسول الله هذه أم سليم معها خنجر، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا الخنجر؟ فقالت: اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرت به بطنه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك” (14)، لكن الإمام لم يحجر هذا الخير على الصحابيات فقط بل بيّن بأن باب هذا الفضل العظيم لا يزال مفتوحا أمام ذوات الهمم العالية، والمجاهدات من النساء لبلوغ مقامات الكمال، الرائدات، الواقفات على ثغور البناء والعطاء، والإصلاح من أجل إنجاح عملية التغيير، لنيل الفضل الجزيل، وعبر عن ذلك بقوله: “لا نجد بعد عهد النبوة والخلافة الراشدة ذكرا للنساء بفضل، وكأن الفتن التي ابتلعت من الرجال أنفة الخضوع للسلطان الجائر عقمت النساء من الفضائل التي كان يتحلى بها الجيل الباني المشارك الحي من الصحابيات رضي الله عنهن” (15).

خاتمة

إن أدوار المرأة في فكر الإمام عبد السلام ياسين مرتبطة بتغييرين اثنين: تغيير ذاتي يربط المرأة بمصيرها الأخروي في علاقتها بربها، وسيلتها الصلاة والقيام والذكر وما سطره الإمام في برنامج “يوم المؤمن وليلته”. وتغيير مجتمعي، يروم تحقيق العدل والمساواة ونشر دعوة الحق، شأنها في ذلك شأن شقيقها الرجل، فالمرأة الرائدة، هي الأقدر والأجدر على إحياء المعاني الإيمانية في المجتمع، والحفاظ على الهوية الإسلامية، ثم التهمم بالقضايا العادلة لعامة النساء، وذلك بحضور إيجابي متوازن في شتى المجالات.


(1) ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل  بن عمر بن كثير، تفسير القرآن العظيم، دار ابن حزم، بيروت،  ط1، 2000، ص 1006.

(2) ياسين، عبد السلام، تنوير المؤمنات، دار البشير للثقافة والعلوم، طنطا، مصر، ط1، 1996، 1\4.

(3) نفسه، 6/1.

(4) الغزالي، محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزالي، إحياء علوم الدين، تحقيق اللجنة العلمية بمركز دار المنهاج للدراسات والتحقيق العلمي، دار المنهاج، بيروت، ط1، 2011، ص 226.

(5) نفسه.

(6) نفسه، 347.

(7) الرومي، جلال الدين، كتاب فيه ما فيه، ترجمة عيسى علي العاكوب، دار الفكر المعاصر، بيروت، دط، دت، ص 63.

(8) نفسه.

(9) ياسين، عبد السلام، تنوير المؤمنات، 1\83.
(10) رضا، محمد رشيد، حقوق النساء في الإسلام وحظهن من الإصلاح المحمدي العام، المكتب الإسلامي، بيروت، 1404 هـ-1984م، ص 12.

(11) ياسين، عبد السلام، تنوير المؤمنات، 11/1

(12) نفسه، 213/2.

(13) ياسين، عبد السلام، العدل الإسلاميون والحكم، دار إفريقيا والشرق، الدار البيضاء، ط1، 2000، ص 283.

(14) المصري، محمود، صحابيات حول الرسول، منشورات أبو بكر، مصر، ط3، 2003، ص 280.

(15) ياسين، عبد السلام، تنوير المومنات، 61/1.