أجل؛ ضمته إلى صدرها بقوة كطفل صغير مذعور من أمر جلل، ضمته إلى صدرها كطائر يرتجف من برد ليلة عاصفة ظلماء لم يجد ملجأ من قساوة الجو و صقيعه إلا حضنها الدافئ الرحيم المطمئن، ضمته وهي تبتسم بثبات وهدوء، تعلم جليا عظم ما مر به، تعلم أنه ليس بالأمر الهين، توقن أن الجبال لتخرنَّ من جلل ما رأى وسمع، تعلم أن بين يديها وفي حضنها رجل عظيم عظم ما اختصه الله تعالى به من مكارم أخلاق لم تشهد لها مثيلا؛ أخلاق عاشت تفاصيلها وارتوت من معينها حتى ما عاد يخالطها الشك، عظم الغمامة التي ظللته، عظم الشجرة التي حنت بكلها خوفا عليه من قر شمس صحراء قاحلة، وعظم بشرى ابن نوفل التي أكدت لها أن الرجل صناعة ربانية..
زمليني زملي.. دثريني دثري، إني أكاد على ذهولي ارتمي.. فزملت ودثرت و هدأت وآوت و حتضنت، بل وآمنت وصدقت دون أن يرف لها جفن أو تحادثها نفس أو تتردد. فتمتمت بكلماتها الرصينة: “كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق”. كانت كلماتها كالبلسم الساري في قلب خائف وجل، حولته بعد ذعره قلبا هادئا مطمئنا بثباتها وحكمتها. اختارها صلى الله عليه وسلم ملجأ له دون الأهل والأصحاب فكانت عند عظم الاصطفاء.
هي خديجة بنت خويلد القرشية العامرية، معقل الرجاحة وموطن الصدق ومنبع الاحتضان وسيدة الخدمة. هي من نصرت حين الجميع خذل، هي من صدقت حينما الجل كذب، هي من آوت حين القوم أخرجوا.
عندما نزل الوحي على الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم تلك الليلة ففزع وذعر، لم يختر غيرها حضنا، وقد كان يعلم علم اليقين أنها ستقابل خوفه وهلعه بما يسر خاطره ويهدئ روعه، فقد عهد فيها القلب الرحيم والصدر الواسع والعقل الحكيم الراجح.
نعم؛ بهذه الخصال تسكن البيوت وتتآلف القلوب، ليس بالقسوة ولا بالجفاء، ليس بالمادية ولا بالبطاقات الصفراء والحمراء، ليس بالندية الجوفاء ولا بالكلمة الجارحة، بل بالمودة والرحمة. وهذا كنه وجودك سيدتي ولهذه المعاني الرقيقة خلقك الله العلي القدير، زيت الأسرة الذي يلينها إذا ما طغت عليها احتكاكات الحياة، السند الذي يفر إليه رفيق الدرب، والحضن الدافئ الذي يأوي إليه إذا ما جارت عليه نوائب الدهر، قطعة السكر الحلوة التي تعطي للحياة ذوقا رائقا، اللمسة الحانية التي تبادر بمسح الدمعة قبل أن تملأ الجفون، الأذن الصاغية والموجهة المرشدة إلى طريق الرشاد. وهذا كنه وجود الزوج، العمود الفقري للأسرة الذي يسند باقي مكونات الجسم، رعاية مادية ومعنوية، أخلاق عالية، صدق ووفاء وثقة وأمان واحتواء.. وهذا أيضا كنه العلاقة الزوجية؛ علاقة تجمع شطري النفس البشرية فيحصل التكامل والتساكن والرحمة والمودة والفرح دنيا وآخرة.
بهذه المعاني الربانية السامية تأسس البيت النبوي الشريف الذي سيستقبل أهم حدث عرفته البشرية، النبوة؛ نبي كامل صنعه الله سبحانه وتعالى على عينه، وامرأة هي سيدة نساء العالمين، وأولى أمهات المؤمنين وإحدى الكاملات الأربع. بيتا نبويا ربانيا نورانيا كان مهد دعوة عظيمة، أفنت الزوجة حياتها ووقتها وجهدها في خدمته دون كلل أو ملل، لأن المبتغى عظيم عظم رفيق الدرب وتوأم الروح. فكان الجزاء من جنس العمل أن بشرها العلي القدير من فوق سابع سماء ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب.
جعلنا الله وإياكم سائرات على هدي نبينا الرحمة وأمنا خديجة الملاذ والسند. آمين.