قال تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا جاءت هذه الكلمات النيرات في سورة الشرح التي خاطب بها الله حبيبه وصفيه من خلقه صلى الله عليه وسلم وذكره فيها بنعمه التي أنعم بها عليه مبتدئا بأكبرها وأجلها؛ انشراح صدره، وتنوير قلبه، وتطهيره من الذنوب والأوزار، ثم تبشيره بأحسن بشرى في وقت كان يقاسي فيه ومن معه من المؤمنين الشدائد والمحن في سبيل تبليغ كلمة الله، بشره باليسر والفرج، ووجهه إلى سر اليسر وموجباته وهو اللجوء إلى الله والرغبة في ما عنده.
العسر مرتبط باليسر، ما من عسر إلا وتبعه يسر، هما متلازمان لا يفترقان، صاحبان لا يختلفان، اليسر بعد العسر سنة من سنن الله التي لا تعرف الخلف أو النقض، عسر ويسر مفردتان متجانستان لا يفرقهما سوى أول حرف، أول خطوة في عالم الحق، عالم اليقين، عالم الصفاء، عالم الرجاء. من قال في الابتلاء بلاء؟ من قال في الامتحان عناء وشقاء؟ بل هو في لغة المؤمنين عطاء لمن كان ديدنه الرجاء في ما عند الله الميسر، الذي إن شاء جعل الحزن سهلا. كيف يكون الضنك مع ذكر الله؟ كيف تعمى الأبصار وهي ترى بنور الله؟ ونحن نقرأ آيات الله البينات وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (طه، 124). بالمفهوم المخالف ـ بلغة الأصوليين ـ من داوم على ذكره كانت معيشته هناء في الدنيا رغم ما يعترضه من محن، وكان ممن يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم يوم يقوم الأشهاد.
هل وراء العسر من حكمة؟ بل هل للعسر موضع اعتبار في قاموس المؤمن وهو يعلم يقينا أن ما بعد العسر إلا يسرا وما بعد الكرب إلا فرجا، والعاقبة للتقوى؟
عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المعلم الأعظم الأحكم مستضعفا محاربا مطاردا معيّرا، مع ذلك كان الانشراح يملأ وجدانه بفضل من الله ومنة، وكانت العزة له وللمؤمنين ـ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ـ ثبتهم الله وأنزل سكينته عليهم حين قال لهم جل وعلا: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (آل عمران، 139) وأكد رسوله الكريم: “عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له أو أصابته ضراء صبر فكان خيرا له” رواه مسلم في الإيمان. فما يلحق المؤمن من مصائب لا تنتزع منه العلو والعزة مادام مؤمنا بل تزيده إصرارا، وكلما اشتدت الأزمات كلما ازداد تمسكا بالسبيل الذي اختاره لنفسه لأنها أمارات وعلامات على سيره في طريق الحق، صراط الاستقامة، سبيل الله الذي أمرنا أن نتبعه ولا نتبع السبل فتفرق بنا عن سبيله.
ولعل من حكمة الابتلاء أنه فرصة لمراجعة حسابات مضت، ووقفة أمام تطلعات لمستقبل آت مؤمل، فالابتلاء يزيد الرجال نضوجا وصلابة، والدعاة الصادقين ثباتا وعمقا، ولن يكون الابتلاء شرا بالمؤمنين أبدا، فهو خير من خيرات الله يسوقه الله لعباده للعودة إليه والإنابة. ولكن متى يسوق الله اليسر؟ نقرأ الجواب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: “احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا” (أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين، ج3، ص624). فمن استعان بالله وتوكل عليه كان حسبه، ومن صبر كان النصر حليفه، ومن اشتدت كربته فذاك عنوان الفرج، ومن أصابه عسر فتلك بشرى اليسر، فلينتظر إنه وإنهم منتظرون.