في أول الوهلة تبدو وكأنها قد رميت بثالثة الأثافي.. وحين تجلس إليها تجدها أسوأ حالا وأشد قهرا، أو بأدق تعبير: هي ذاك القِدر الفارغ المحترق بثلاثة أثافي: الفقر، والظلم، أما الثالث الأشد فهو الجهل.
قروية ضعيفة تبحث عن لقمة العيش وقد سطر القهر على محياها كل ألوان العبودية الضاربة في الزمن.
ضعيفة تنتظر سياسة الشأن العام أن ترفع عنها الظلامة.
صغيرة قد كبرت مع الفقر والظلم والجهل لتصبح بارعة في التفنن في المراوغة والتحايل، وتعتبره شطارة لا يقبل مجتمع البداوة إلا بها.
تذكرت وقتها والدتي لما كانت تدندن كل صباح بأغنية للحسين السلاوي رحمه الله يقول فيها: “حضي راسك ليفوزوا بيك القومان يا فلان..”، أغنية تحكي أساليب الغش والخداع في عام البون الذي ضربته الغطرسة الفرنسية على المغاربة، أو ما يسمى بعام المجاعة.
التاريخ يشبه بعضه، والحديث يجر بعضه..
تلك الصغيرة القروية لها أم ولكن قد انشغلت، ولها أب إلا أنه قد تخلى، ولها عشيرة قد انقسمت وتشاجرت واختلفت على أتفه الأسباب.
من يحضنها؟! من يعلمها؟! ليعرف عقلها شمس الصدق والنور. من يوفر لها لقمة العيش دون أن تلجأ للف والدوران؟! من يأويها ويحميها وينصفها ويجعل لها مكانا بين صويحبات القصور والدثور؟!..
هذا هو واقع الحال المتأزم في القرية كما في المدينة على حد سواء، وإن كان أشد مضاضة في العالم القروي.
ومع دخول العام الدراسي الجديد أي مكان لهذه الصغيرة القروية؟ وألف علامة استفهام لوزارة التعليم المعنية، وبرامج التنمية المستدامة، وقائمة الألعاب السياسية الطويلة البعيدة المدى؟؟؟
قروية صغيرة ضعيفة.. ولكن للأسف ليست في زمن عمر.
عمر بن عبد العزيز لما بدأ أول عهده السياسي كان أول أمره أن كتبت إليه فرتونة السوداء تشكو أن لها حائطا قصيرا يقتحم عليها، فتسرق دجاجاتها، فيحرك حزم وصرامة عمر جهاز الدولة في شخص عامله أيوب بن شرحبيل، يأمره أن يذهب بنفسه لصيانة الدجاجات وتحصين الحائط القصير لفرتونة، لتصبح أجهزة الدولة في خدمة الشعب.
هو مرور فقط عبر سطور التاريخ نستمد منه المثل، فما أكثر فرتونات هذا الزمن ذوات الحوائط القصيرة ينتظرن عدلا وحزما كحزم عمر.
سألت الصغيرة القروية عن أمنياتها فقالت: توقفت مع توقف المسار الدراسي، لأن الفقر قاهر.
وسألت عن الحال فقالت: “لا أعرف إلا رغيف خبز أسود تغربل طحينه أمي كل صباح”. دقيق دعم العالم القروي الذي اختلط بالدود والحجارة، وعلى رغم رداءته فهو لا يستفيد منه إلا من له خبرة قديمة في سياسة لَيّ الأعناق التي يبرع فيها مقدم الدوار، المقدم الذي صدق فيه المثل العربي القائل: “شنشنة أعرفها من أخزم”، فهو بدوره قد تعلم النباهة والشطارة التي من فصيلة (إن) من ممثل الدوار داخل الجماعة القروية. وراثة للظالمين متسلسلة.
حاولت قدر جهدي أن أفكك طلاسيم الجهل الموروث من عقل الأم: المربية الأولى، لعل الصغيرة تجد لها مكانا تحت ضوء الشمس، إلا أني وجدت الإعلام الفاسد قد سبقني وعشعش بأفلام النهار الرخيصة، وعسعس بسهرات الليل الماجنة ليضرب على تفكير الوالدين بجلاجل الخوف والإذعان.
أمومة مجدوعة الأنف وراثة، معوقة بالجهل والأمية. وأبوة شاردة مع أفيون الحشيش السائب والفقر الظالم، بعيدة عن الله تعالى.
أم وأب لم يؤديا واجب الحب والعقل والإيمان ألقيا إلى الوجود أجساما، فلما أرسلاها هملا ساءت عملا. وظلم جاثم على الصدور يخنق كل الأنفاس.
وثالثة الأثافي أن أرى الأخ الأكبر وهو يرعى نعاجا عجفاء وبين يديه هاتف نقال يلعب لعبة “فريفاير” المهلوسة.
تصوروا معي حجم الكارثة!
هذا هو العالم القروي؛ خزان الأصوات في لعبة الانتخابات.
وهذه هي حقيقة برامج تنمية العالم القروي والشعارات الفارغة:
نامي جياعَ الشَّعْبِ نامي ** حَرَسَتْكِ آلِهةُ الطَّعامِ
نامي على زُبَدِ الوعود ** يُدَافُ في عَسَلِ الكلامِ (1)
(1) من قصيدة: “نامي جياعَ الشَّعْبِ نامي” للشاعر محمد مهدي الجواهري.