اعتنى الدين الإسلامي بالعبادات، كما اهتم بالمعاملات والأخلاق، بل وجعل تغيير باطن الإنسان، وتزكية نفسه، وتعديل سلوكه، من أهم مقاصد العبادات، ويعد حسن الجوار من أفضل القربات وألطف ما يستفاد من الطاعات في باب المعاملات والعادات، فبه تتحقق معاني المحبة في الله والأخوة في الله، وقد بدا أن لهذا الموضوع أهميته وراهنيته نظرا لما أصبح يعيشه مجتمعنا الاستهلاكي الأناني من غربة وفردانية مجاراة للنمط الغربي، فالناس اليوم لا يأبه بعضهم لبعض، ولا يهتم أحدهم لهموم أحد، إلا من رُحم، لذلك وجب التذكير بأهمية هذه الرابطة الاجتماعية من خلال عرض فضائلها كما بينها النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هذه الفضائل:
1- حسن الجوار من كمال الإيمان
يعد الإيمان درجة من درجات الدين أرقى من الإسلام، لأن الإسلام مرتبط بالأعمال الظاهرة المتمثلة في الأركان الخمسة، أما الإيمان فمرتبط بالأعمال القلبية الباطنة وهي الأركان الستة، كما أن إيمان المرء لا يكتمل بالاعتقاد القلبي فحسب، بل لابد له من الظهور في أعمال الجوارح من أقوال وأفعال وأحوال، وقد وردت أحاديث كثيرة تحث على ذلك، منها ما خص به النبي صلى الله عليه وسلم حسن الجوار، حيث ورد “عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحسن إلى جارك تكن مؤمنا” 1، لقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان إلى الجار من علامات الإيمان، والإحسان إلى الجار يكون بمشاركته أفراحه وأحزانه، وبالتغاضي عن زلاته، وبالوقوف معه في الشدائد ونوائب الدهر.
2- حسن الجوار يكفر الذنوب
مغفرة الذنوب مطلب كل عابد، وغاية كل زاهد، وقد فتح الله أبوابا عديدة لذلك، ومنها حسن الجوار، فعن أنس رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة أهل أبيات من جيرانه الأدنين، إلا قال: قد قبلت علمكم فيه، وغفرت له ما لا تعلمون” 2، لقد بين النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ما من مسلم يموت ويشهد له أربعة من جيرانه الأقربين لبيته بالصلاح والخير إلا وقبل الله تعالى شهادتهم وغفر له ذنوبه، ولعل قبول الله تعالى لشهادة الجيران راجع لكونهم أعلم بحقيقة أحواله لملازمتهم له، وطول معاشرتهم له.
3- الجار الصالح يُسعد ويَسعد
السعادة عبارة عن شعور بالفرح والبهجة يعطي للمرء طمأنينة نفسية، وضدها الشقاء، والأسباب الموصلة للسعادة متعددة، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الجار الصالح أحدها، “فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء. وأربع من الشقاء: الجار السوء، والمرأة السوء، والمركب السوء، والمسكن الضيق” 3. فالمسلم الذي حباه الله بجار صالح “يعوده في المرض ويعزيه في المصيبة ويقوم معه في العزاء ويهنئه في الفرح ويظهر الشركة في السرور معه ويصفح عن زلاته” 4، فقد فتح الله له أحد أبواب السعادة.
4- الجار الصالح من أهل الجنة
إن إذاية الجيران أمر عظيم، فقد يكون سببا في بطلان الأعمال الحسنة رغم كثرتها، بل وقد تهوي بصاحبها في النار، “فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إن فلانة تقوم الليل وتصوم النهار، وتفعل، وتصدق، وتؤذي جيرانها بلسانها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا خير فيها، هي من أهل النار، قالوا: وفلانة تصلي المكتوبة، وتصدق بأثوار، ولا تؤذي أحدا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي من أهل الجنة” 5، يتبين من خلال المقارنة بين الجارتين بأن كثرة العمل لا تغني أمام إذاية الجيران، فالجارة الثانية رغم قلة عملها بشرت بالجنة، وذلك بفضل كفها للسانها وإحسانها إلى جيرانها. ولعل إشارة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإذاية باللسان دون غيره راجعة لكون أكثر ما يقع بين الجيران من مشاكل سببه اللسان.
5- للجار حق الشفعة
الشفعة هي استحقاق الشريك انتزاع وضم حصة شريكه من يد مشتريها بالثمن الذي استقر عليه العقد مع المشتري، وشرعت لدفع الضرر عن الشريك، لأنه ربما اشترى نصيب شريكه ذو خلق سيء فيتسبب في إذايته، وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم للجار الحق في الشفعة على غيره، “فعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها، وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا” 6، والظاهر من الحديث أن الجار له حق الشفعة سواء أكان شريكا أم غير شريك، لاشتراكهما في الطريق، والغاية من ذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تأليف قلوب الجيران خشية أن تقع بينهم خصومات ومنازعات.
6- خير الجيران خيرهم لجاره
الخيرية تفيد الأفضلية، وقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم الجار الصالح بهذه الصفة، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “خير الأصحاب عند الله تعالى خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله تعالى خيرهم لجاره” 7، ولعل الخيرية هنا تفيد الفوز بالأجر والثواب العظيم، فالجار الصالح عند الله أفضل الناس منزلة وأكثرهم ثوابا بفضل نفعه لجيرانه.
7- حسن الجوار يعمر الديار ويبارك في الأعمار
كلنا نشتكي اليوم أكثر مما مضى من زوال البركة في الرزق والوقت، ناسين أو متناسين أنه من عند أنفسنا، فلو عدنا إلى السنة النبوية لوجدنا الداء والدواء، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “حسن الجوار، وصلة الرحم، وحسن الخلق، يعمرن الديار ويزدن في الأعمار” 8، فتعمير الديار يكون بإحلال البركة في البيت عن طريق دوام الرزق والخير، وزيادة الأعمار تكون بالبركة في الوقت والجهد عن طريق التوفيق لعمل الخير والإكثار من الطاعات والتحصين من المعاصي، وكل ذلك يحصل يقينا بالإحسان إلى الجيران.
إن هذه الفضائل مجرد غيض من فيض، وإلا فما أعده الله لصاحب هاته الخصلة الحميدة لا تعده الحروف ولا تصفه العبارات، نظرا لما تحققه من مقاصد تقرب المسافات، وتلم شمل الأفراد والجماعات، فحسن الجوار أساس بناء مجتمع العمران الأخوي يجـب الحـرص عليه وحـث النـاس علـى تقديره.
[2] ابن حنبل، أحمد، مسند الإمام أحمد، تحقيق شعيب الأرنؤوط وعادل مرشد، وآخرون، (مؤسسة الرسالة، ط1، 1421هـ ـ 2001م)، حديث رقم 13541.
[3] الألباني، محمد ناصر الدين، صحيح الترغيب والترهيب (مكتبة المعارف للنشر والتوزيع – الرياض، ط1، 1421هـ 2000م)، باب الترهيب من أذى الجار وما جاء في تأكيد حقه، حديث رقم 2576.
[4] الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين، 2/213.
[5] البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم، صحيح الأدب المفرد، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني (دار الصديق للنشر والتوزيع، ط4، 1418هـ ـ 1997م)، باب لا يؤذي جاره، حديث رقم 119، ص69.
[6] أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق، سنن أبي داود، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، (المكتبة العصرية، بيروت، دط، دت)، باب في الشفعة، حديث رقم 3518.
[7] البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم، صحيح الأدب المفرد، باب خير الجيران، حديث رقم 84.
[8] ابن أبي الدنيا، أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان، مكارم الأخلاق، تحقيق مجدي السيد إبراهيم، (مكتبة القرآن – القاهرة، دط، دت)، باب التذمم للجار، حديث رقم 329.