في كل عام من السنة الهجرية، ينتظر كل واحد منا يوما هو من أفضل أيام السنة، ويأتي في العشر الأوائل من ذي الحجة، التي أقسم الله بها في سورة الفجر فقال عز من قائل: وَالْفَجْرِ (١) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (٢) (سورة الفجر).
أول ما تقرأه المؤمنة على مسامعها ومسامع أخواتها، قسم بمخلوق ينضاف إلى مخلوقات أخرى عظمها الله تعالى أمام ناظر الإنسان، ومنها أيضا نجد قوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (سورة الليل، آية 1)، وقوله عز من قائل: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (سورة الشمس، آية 1)، وقوله سبحانه: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (سورة النجم، آية 1).
وفي السنة النبوية نجده صلى الله عليه وسلم يقول: “ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام، يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء” (رواه البخاري).
تزيد هذه الأيام عظمة وتشريفا وأنوارا باحتوائها ليوم عرفة، اليوم التاسع من شهر ذي الحجة، حيث يقف الحجاج في هذا اليوم على جبل عرفة، ويعدّ هذا الوقوف على الجبل ركن من أركان الحج.
“يوم عرفة” و”وقفة عرفة” و”جبل عرفات” ثلاث مسميات أساسية، لا يصح عمل الحاج إلا بالحرص على القيام بها، وإلا يعد حجه ناقصا لإحدى أركانه. ومن هنا يتضح لنا جليا أن لهذا اليوم فضائل اختصه الله بها، ومنها:
1- من منن الله تعالى على عباده المسلمين، أن أتم ديننا الحنيف في هذا اليوم العظيم. وتمامه إنما هو نعمة من أفضل النعم والمنح الربانية.
قال عُمر بن الخطاب -رضي الله عنه- للرجل غير المسلم الذي أخبره عن آية في القُرآن؛ أنّها لو نزلت على قومه لاتّخذوا ذلك اليوم عيداً لهم، فقال عمر -رضي الله عنه-: (وَأَيُّ آيَةٍ؟ قالَ: {الْيَومَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وَأَتْمَمْتُ علَيْكُم نِعْمَتِي، وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلَامَ دِينًا}، فَقالَ عُمَرُ: إنِّي لأَعْلَمُ اليومَ الذي نَزَلَتْ فِيهِ، وَالْمَكانَ الذي نَزَلَتْ فِيهِ، نَزَلَتْ علَى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ بعَرَفَاتٍ في يَومِ جُمُعَةٍ) [1].
2- يعد الصيام ركنا من أركان الإسلام، وقد حبب رسول الله عليه الصلاة والسلام الصيام في هذا اليوم لما فيه من تكفير للسنة الماضية والمقبلة؛ رَوَى أَبُو قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَال: “صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ” (أخرجه مسلم).
وقال عليه الصلاة والسلام عندما سُئل عن صيام يوم عرفة: “يُكَفِّرُ السَّنَةَ المَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ” [2]، وتكفير السنة القادمة مع عدم وقوع الذنوب فيها بعدُ؛ معناه توفيق الله تعالى للعبد بإبعاده عن الذُنوب، وإن حصل الذنب وفّقه الله -تعالى- لأعمالٍ تُكفّره [3].
3- الدعاء: مخ العبادة، وإظهار الحاجة لله تعالى لازمة، فمن آداب الدُعاء كما جاء عن الإمام الغزاليّ: اختيار الأزمنة الشريفة كيوم عرفة، ومما جاء في فضل دُعاء يوم عرفة حديث النبي عليه الصلاة والسلام قال: “خيرُ الدُّعاءِ دعاءُ يومِ عرفةَ” [4]، وهو عامّ لجميع الناس، سواءً أكان حاجّاً أو غير حاجّ [5].
4- ذكر الله تعالى، “يوم عرفة” في كلمة جامعة كافية شافية: “الحج عرفة”، هو اليوم الذي يؤدّي فيه الحاجّ ركن الحجّ الأعظم، وهو الوقوف بعرفة.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: “الحجُّ عرفةُ” [6]. وهو اليوم الذي يعتق الله تعالى عباده من النار، قال النبي عليه الصلاة والسلام: “ما مِن يَومٍ أَكْثَرَ مِن أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فيه عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِن يَومِ عَرَفَةَ” [7]، فيغفر الله تعالى فيه لجميع المُسلمين؛ مما يزيد من غضب إبليس [8].
وهو اليوم الذي يُباهي الله تعالى بعباده الملائكة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: “ما مِن يَومٍ أَكْثَرَ مِن أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فيه عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِن يَومِ عَرَفَةَ، وإنَّه لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بهِمِ المَلَائِكَةَ، فيَقولُ: ما أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟” [9]، وعن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما من يوم أكثرُ من أن يعتق الله فيه عبيداً من النار من يوم عرفة” [10].
5- يوم عرفة يوم فضل وغنيمة وعتق من النار ومغفرة من الله سبحانه، وتحصيل ذلك لا يكون إلا بأسباب منها: حفظ الحواس.
عن ابن عباس عن الفضل بن عباس أنه كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، فجعل الفضل يلاحظ النساء، وينظر إليهن، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجهه بيده من خلفه، وجعل الفتى يلاحظ إليهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا ابن أخي إن هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له» (حدثناه نصر بن مرزوق، ثنا أسد، ثنا سكين بن عبد العزيز ). والرديف: الراكب خلف قائد الدابة.
هكذا إذن جمعت هذه العشر الأوائل من ذي الحجة بما فيها “يوم عرفة” أركان الإسلام ومكارم الأخلاق النبوية.
فاللهم بلغنا عرفة ولا تحرمنا أجرها ووفقنا لما تحبه وترضاه آمين.
[1] رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن عمر بن الخطاب، الرقم: 3017، صحيح.
[2] رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبي قتادة الحارث بن ربعي، الصفحة أو الرقم: 1162، صحيح.
[3] محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد الحسني، الكحلاني ثم الصنعاني، سبل السلام، (بدون طبعة)، القاهرة: دار الحديث، صفحة 581، جزء 1. بتصرّف.
[4] رواه الألباني، في صحيح الترمذي، عن جد عمرو بن شعيب، الرقم: 3585، حسن.
[5] محمد بن علان الصديقي، الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية، القاهرة: جمعية النشر والتأليف الأزهرية، صفحة 244، جزء 7. بتصرّف.
[6] رواه النووي، في المجموع، عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي، الصفحة أو الرقم: 8/95، صحيح.
[7] رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن عائشة أم المؤمنين، الرقم: 1348، صحيح.
[8] خالد أبو شادي، أحلى 13 يوم، مصر: طيبة للنشر والتوزيع، صفحة 48-49. بتصرّف.
[9] أخرجه مسلم في صحيحه، الرقم 1348.
[10] المحدث: الألباني، المصدر: صحيح الترغيب، الرقم: 1154، خلاصة حكم المحدث: صحيح لغيره.