من كتاب “الرباط.. أفضل وسيلة لأكمل غاية” للأستاذ منير ركراكي، الطبعة الأولى 1442هـ/2021م، صص 32-34.
للرباط في سبيل الله فضائل عظيمة لا توجد في غيره من القربات إذ إنه وعاء لكثير من شعائر الله، ذَالِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَيرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب (سورة الحج، 30)، فكيف بتعظيم وعاء من الشعائر والنعم التي لا تعد ولا تحصى أو تحصر، فأحرى أن يُحمد الله عليها ويُشكر؟! اللهم أدِّ عنا شكر نعمك.
عن أبي سلمة بن عبد الرحمان قال: أقبل علي أبو هريرة يوما فقال: أتدري يا ابن أخي فيم نزلت هذه الآية “يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا…” قلت: لا، قال: أما إنه لم يكن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد ويصلون الصلاة في مواقيتها، ثم يذكرون الله فيها، فعليهم أُنزِلَت “اصبروا” أي على الصلوات الخمس، “وصابروا” أنفسكم وهواكم، ورابطوا” في مساجدكم، “واتقوا” الله فيما عليكم “لعلكم تفلحون”.
وقال سَري السقطي رحمه الله في قوله تعالى: يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (سورة آل عمران، 200) اصبروا على الدنيا رجاء السلامة، وصابروا عند القتال بالثبات والاستقامة، ورابطوا أهواء النفس اللوامة، واتقوا ما يعقب ذلك لعلكم تفلحون على بساط الكرامة.
ومن فضائل الرباط وبركات أجره ونوره نحصي ذكرا لا حصرا أن:
أ- أجر المرابط لا ينقطع بموته.
فعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله فإنه يُنمّى له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فتنة القبر” 1. وزاد في آخره قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “المجاهد من جاهد نفسه لله عز وجل” وهذه الزيادة في بعض نسخ الترمذي.
ب- المرابط يؤمن من الفزع الأكبر يوم القيامة.
فقد روى ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ قال: “من مات مرابطا في سبيل الله أجري عليه أجر عمله الصالح الذي كان يعمل، وأجري عليه رزقه، وأمن من الفتان وبعثه الله يوم القيامة آمنا من الفزع الأكبر” 2 .
ج- من مات مرابطا مات مجاهدا.
قال صلى الله عليه وسلم: “رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه” 3 ويقول ابن تيمية تعليقا على هذا الحديث وتعقيبا: “من مات مرابطا مات مجاهدا وجرى عليه عمله وأجري عليه رزقه من الجنة وأمن الفتنة. والجهاد أفضل من الحج والعمرة كما قال تعالى: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاج وَعِمَارَة الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَن امَن بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَد فِي سَبِيلِ الله لا يستوون عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأولَئكَ هُمُ الْفائزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةِ مِنْهُ وَرِضْوَانِ وَجَنَّتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ (21) خَلِدِينَ فيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرُ عَظِيمٌ (22) (سورة التوبة) 4.
د – المرابط لا تمسه النار يوم القيامة.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “عينان لا تمسهما النار أبدا عين باتت تكلأ في سبيل الله وعين بكت من خشية الله” رواه أبو يعلى ورواته ثقات والطبراني في الأوسط إلا أنه قال: “عينان لا تريان النار” 5.
هـ- فضل الرباط أربعين ليلة خاصة عند بلوغ الأربعين.
ذلك أن الله عز وجل خص الأربعين بالذكر في قصة سيدنا موسى عليه السلام وأمره بتخصيصها بمزيد من الذكر والعبادة استعدادا لميقات الله عز وجل. قال المولى جل وعلا: وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً (سورة الأعراف، 142).
لهذا يُحمد أن يرابط المؤمنون أربعين يوما التماسا لبركة هذا العدد المخصوص بالذكر في التنزيل المنير، والذي جاءت الأحاديث مؤكدة على أهميته في التكوين والتغيير.
عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو الصادق المصدوق: “إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد…” 6 رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تمام الرباط أربعين يوما ومن رابط أربعين يوما لم يبع ولم يشتر ولم يحدث حدثا خرج من ذنوبه كما ولدته أمه” 7.
[2] رواه أبو هريرة رضي الله عنه بإسناد صحيح في الترغيب والترهيب 221/2.
[3] رواه مسلم رحمه الله (1913).
[4] مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله 35/145.
[5] رواه أنس بن مالك رضي الله عنه في الترغيب والترهيب 2/226، وقال في حكمه رواته ثقات.
[6] حديث روي في الصحيح الجامع عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه 1543 بإسناد صحيح على شرط الشيخين رحمهما الله.
[7] رواه الطبراني رحمه الله في معجمه الكبير 8/133 – 7606.