السبت 07 أكتوبر 2023 يوم تاريخـي بامتياز، أرّخ لعهد جديد فـي تاريخ القضية الفلسطينية تحت عنوان “طوفان الأقصـى”، فقد جاء خطوة استباقية وقرارا جريئا لإفشال مخططات إقبار القضية نهائيا، حيث كان الاشتغال علـى تنزيل مشروع الشرق الأوسط الجديد بعد استكمال عملية التحميل ممثلة فـيما يعرف بصفقة قرن ليتصدر الكيان الإسرائيلـي المشهد، ويتحكم فـي أعصاب الاقتصاد العالمـي من خلال قناة بن غوريون التي تربط البحر الأحمر بالمتوسط.
دون سابق إنذار، وفـي غفلة عن عيون الاستخبارات العالمية وليست الإسرائيلية فقط، اجتاحت كتائب المقاومة الإسلامية غلاف غزة مباغتة قوات العدو لتنال منه قتلا وأسْـرا فـي مشاهد أشبه بالهوليودية؛ اجتياح فـي توقيته وحجمه وشكله مرّغ سمعة الكيان الذي سوّق لعقود صورة الجيش الذي لا يُقهر.
اجتياح قوبل بعدوان همجـي من الكيان الصهيونـي مدعوم بإسناد غربـي عسكريا وسياسيا وإعلاميا، ضاعف منسوب وحشيته تخاذل مُخزٍ للنظام العربي الرسمي مُمَنّيّاً النفس باجتثاث مقاومة إسلامية ترسم بشجاعتها ورباطة جأشها معالم مسار تحرر الشعوب من الاستبداد.
وبقدر ما كان العدوان وحشيا، جاء صمود قطاع غزة أسطوريا؛ صمودٌ أبهر أحرار العالم، وأحرج طابور التطبيع والخذلان، إذ كيف لشعب أعزلَ محاصـرٍ برا وبحرا وجوا منذ ما يقرب من العِقدين، وفـي مساحة ضيقة ومكشوفة أن يصمد اثنـيْ عشرا شهرا أمام عدوان دولـي شكل تحالفا استخباراتيا وعسكريا ارتقـى لحرب كونية؛ صمود يسائل العوامل التـي ضمنت لسكان قطاع غزة حاضنة ومقاومة هذا الثبات الأسطوري.
مقابل همجية العدوان التي واكبت شعوب العالم يومياتها بالصوت والصورة، نجحت المقاومة الفلسطينية مدعومة بحاضنتها الشعبية فـي الصمود أمام ترسانة من أعتى الأسلحة وأفتكها، وأمام تحالف دولـي للأجهزة الاستخباراتية بحثا عن الأسرى لافتكاكهم، وتقفيا لتنقلات قادة المقاومة قصد اغتيالها، فـيما يُسعف لتسويق صورة انتصار يرد الاعتبار لدولة الكيان الغاصب؛ صمود فاق كل تصور وحاز تعاطفا شعبيا يكفيه إنجازا أن فضح سـردية إسرائيلية تقوم علـى مظلومية مزعومة من خلال استدعاء محرقة الهولوكوست وتوظيفها لإحراج الضمير الغربـي.
لقد كانت لافتة ردود أفعال سكان قطاع غزة شيبا وشبابا، نساء ورجالا بُعيد كل قصف أو مجزرة يرتكبها الكيان الغاصب؛ ردود تنمُّ عن وازع إيمانـي وتربية رسخت فـي النفوس ثقة ويقينا في نصر الله تذكِّـر بما كان عليه الرعيل الأول من الصحابة فـي حضن تربية نبوية حانية؛ ردود تسمو على الألم وتسبح فـي ملكوت الأنوار والطمأنينة والرضا بقدر الله، وكأن القوم لا يعيشون تلك المآسـي حيث الأشلاء واختناق الأجنة الخُدّج تُدمـي القلوب.
إن ما بدا عليه سكان قطاع غزة من ثبات لم يأت من فراغ، ولم يكن تحمسا عابرا، بل هو خراج حوالي أربعة عقود من الاشتغال علـى تربية إيمانية نجحت فـي ترسيخ معانـي الانخراط فـي مشروع مقاومة الاحتلال تصديقا لوعد ربانـي لجنده بالنصـر لقوله جل وعلا: وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ، وبشارة نبوية خصت أهل فلسطين بفضل الجهاد والذود علـى مقدسات الأمة، وفـي الحديث: “لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لَأْواء، حتـى يأتيهم أمر الله. وهم كذلك”، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: “ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس”، وقوله صلـى الله عليه وسلم: “أول هذا الأمر نبوة ورحمة، ثم يكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملكًا ورحمة، ثم يكون إمارة ورحمة، ثم يتكادمون عليه تكادم الحمر، فعليكم بالجهاد وإن أفضل جهادكم الرباط، وإن أفضل رباطكم عسقلان”؛ تربية إيمانية رسمت أفواج تخريج حفاظ القرآن الكريم سنويا ومن كل الأعمار معالمه، وتعليم ناجع نافع مكّن من اكتساب ناصية العلوم ترجمته القدرة علـى تطوير العتاد العسكري وتوظيف ما أتيح من إمكانيات فـي إطار ما تسمح به ظروف الحصار، ليتوفر بذلك شرط الإعداد وفق المستطاع مصداقا لقوله تعالى: وأعدوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ.
لله دركم أهل غزة، ضربتم أروع الأمثلة فـي الثبات والفرح بالشهادة فـي سبيل الله، أداء لضريبة الجهاد نيابة عن الأمة، فألهبتم بذلك الثبات حماس شعوب العالم وأحراره للبحث عن أسرار ذلك، فاهتدى منهم خلق كثير لاعتناق الإسلام تجاوبا مع دعوتكم بالحال قبل المقال.
فتحية إكبار لأهل غزة العزة حاضنة شعبية ومقاومة، والذل والهوان لكل مطبع باع القضية أو تخاذل عن نصرتها. وإن غدا لناظره لقريب. ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله. والحمد لله رب العالمين.