فـي ذكـرى طوفان الأقصـى.. تذكير بالسياق

Cover Image for فـي ذكـرى طوفان الأقصـى.. تذكير بالسياق
نشر بتاريخ

لا يمكن لعاقل أن يفصل بين ما وقع يوم السابع من أكتوبر وبين تاريخ القضية الفلسطينية الذي يمتد منذ 1917 زمن ما بات يسمى بالانتداب البريطاني، وما نتج عنه من تسليم البندقية لعصابات الكيان وتمكينهم من بناء كيان على أرض مغتصبة في صفقة إجرامية أقل ما يقال عنها إنها إعطاء من لا يملك لمن لا يستحق.

تاريخ من النضال التحرري قادته الفصائل الفلسطينية خضبته بدماء الشهداء في ملحمة أثبتت أنه لا يمكن اجتثاث الشعوب الحرة ولا محو هويتها الراسخة رسوخ الزعتر والزيتون.

ولكن في الآونة الأخيرة ومع تخلي الأنظمة العربية عن الدعم والمساندة لتحرر الشعب الفلسطيني وخاصة بعد أوسلو وتبعاته الذي كبل دول الطوق وحجم من دورها في هذا الصراع وكرس الاستعمار وأباح الاستيطان، عرفت القضية خفوتا ملفتا خاصة مع استعار حملة التطبيع مع الكيان وسعي هذا الأخير مسنودا بقوى الاستكبار العالمي إلى تصفية القضية مستعينا في ذلك بمجموعة من المشاريع والاتفاقيات مع دول المنطقة وسائر الدول العربية.

فبالإضافة إلى الحصار الذي طال غزة الأبية لأكثر من 16 سنة، لا بد من التذكير بالتضييق الذي مورس على الضفة التي أصبحت عبارة عن جزر تمزقها المستوطنات المحروسة من قبل جيش الاحتلال الإسرائلي وقطعان المستوطنين المدججين بسلاح مودريتش…و الذين كثفوا من اقتحاماتهم للمسجد الأقصى المبارك في الوقت الذي متنت دبي علاقتها بإسرائيل وتتم مناقشة تفاصيل طرق الحرير الذي يرمي إلى الربط البري بين دول المنطقة في محاولة لإدماج الكيان الجرثومة، ناهيك عن مشاريع الغاز والمدن الذكية وهلم جرا من الأمور التي للصهاينة فيها اليد الطولى…

في هذا السياق ومع اشتداد السياسات الاستيطانية والتضييق على الأسرى والتمادي في الاستيطان أمام شلل السلطة الفلسطينية، تأتي عملية طوفان الأقصى كالنور الكاشف الذي صدم الجميع ليرى حقيقة الوضع ويغير الخريطة والبوصلة معا إلى غير رجعة.

طوفان الأقصى الحدث والتداعيات

حاز طوفان الأقصى الذي أرخ له يوم السابع من أكتوبر 2023 كل مواصفات التميز والانفراد بالحدث التاريخـي، بل أضحى هذا اليوم فيصلا بين عهدين مختلفين، إذ أزاح تصورات ومفاهيم فـي حكم المُسلّمات من قبيل أن الكيان الإسرائيلـي ثبّت وجوده، كما تروج لها مقولة: “إسرائيل وُجدت لتبقـى”، بل وأضحـى فاعلا رئيسا في الشرق الأوسط، وغدا مُهاب الجانب، تسارع الأنظمة العربية “الكرطونية” شراء وُدّه، وتتهافت علـى التطبيع معه؛ مقابل ذلك ذكّر طوفان الأقصـى ببَدَهيات، كاد أن يطالها النسيان من قبيل أن الحق لا يسقط بالتقادم، وأن الشعوب الحرة الأبية قد تمرض، وقد تضعف وينال منها الوهن، لكنها لا تموت.

توالت أسابيع العدوان الغاشم المدعوم من الغرب استخباراتيا وسياسيا وإعلاميا وعسكريا، والمسنود من تواطؤ النظام العربـي الرسمـي وسكوته عما تقترفه الماكينة الحربية الهمجية فـي سكان قطاع غزة من بشاعات يشيب من هولها الولدان، قصف وخسف وتجويع وحصار مطبِق، ليُترك الشعب الغزاوي أعزل إلا من إيمانه بعدالة قضيته؛ إيمان أحدث الفارق ليُصدم الجميع؛ الأصدقاء قبل الأعداء بصمود أسطوري لشعب احتضن مقاومته وآمن بقدراتها فـي إفشال العدوان، علـى الرغم من ثقل الفاتورة بشريا قبل أي شيء آخر.

لقد كان طوفان الأقصى اختيارا وقرارا واعيين بما دُبر من مخططات لإقبار القضية الفلسطينية والتبشير بعهد “إسرائيل العظمـى”، لتتصدر المشهد ليس إقليميا فقط، بل وعالميا تستحيل قلبا نابضا للاقتصاد العالمـي من خلال قناة بن غوريون ربطا بين شرق آسيا وأوروبا؛ طوفان الأقصى جاء خطوة استباقية خلطت الأوراق وأعادت القضية الفلسطينية إلـى المربع الأول.

طوفان الأقصى: فضح المستور وكشف الزيف

أصبح طوفان الأقصى بما هو حدث فرقان واختيار موفق؛ فاضحا للمستور، وكشف بالبيان نفاق غرب بمؤسساته وهيئاته الدولية يدعـي الدفاع عن حقوق الإنسان، فانغمس منذ الساعات الأولـى بعد الطوفان وبشكل عملي وميدانـي فـي دعم غير مشروط للكيان الغاصب، مثلما كشف، وربما بشكل أكبر، خذلان الحكام العرب لقضية فلسطين وفضح زيف الشعارات، فلم يتوانوا فـي إسناد العدوان وتمكين الكيان الغاصب مما حرموا منه الشعب الفلسطيني من غذاء ودواء، قبل السلاح، لا سامح الله.

طوفان الأقصـى وما رسمته المقاومة من صور البسالة علـى تواضع الإمكانيات فـي التصدي للعدوان، وما تقاسمه عموم الشعب من مواقف الثبات والاحتساب استحال ضياء يجلي لكثير من النخب مدى التضليل الذي تمارسه الآلة الإعلامية الغربية المرتهنة، فبعث بذلك رسائل توعوية ومواعظ بليغة ألهمت فئات واسعة من الشعوب لدعم الشعب الفلسطيني والإيمان بعدالة قضيته؛ دعم شعبي أعاد عقارب السردية الإسرائيلية إلى الوراء وغدت عبارة “فلسطين حرة” لسان حال أجيال من شباب الغرب وأطفاله، وهو ما يعتبر مؤشـر بوار المخطط الصهيونـي.

طوفان الأقصـى أعاد الثقة للشعوب المستضعفة، والمسلمين تحديدا، أنها تملك القدرة علـى تغيير ما بها من هوان استشرافا للعزة والكرامة والحرية، متى وثقت فـي قدراتها، واختارت الاصطفاف وراء الصادقين من أبنائها. ولعل هذه أخطر ما ترتعد له فرائص المستبدين الجاثمين علـى صدر الأمة المصادرين لإرادتها وقرارها.

كشف طوفان الأقصى زيف السردية الإسرائيلية الموجهة للداخل قبل الخارج، حيث كسر مقولات كانت إلى الأمس القريب قبيل الطوفان من باب المسلمات التي لا يرقى إليها الشك من قبيل أن الأمن مستتب ولا أحد يستطيع زعزعته، وأن إسرائيل هي واحة من الديمقراطية والرفاه وسط صحراء العرب القاحلة من جراء السلطوية، ناهيك عن مقولة الجيش الذي لا يقهر، والاقتصاد المتنامي خاصة مع توطين التكنولوجيا، شركاتها الكبيرة في ثاني أودية السيليكون بعد “السيليكون فالي” الأمريكي. كل هذا أصبح في خبر كان بعد عملية طوفان الأقصى وما تولد عنها من حرب تتجه الآن إلى الانفتاح والشمول أكثر من أي وقت مضى، خاصة مع انفتاح الجبهة اللبنانية ودخول إيران على الخط.

طوفان الأقصـى وبعد تفاعل جبهات الإسناد المختلفة وما أضافه الكيان الغاصب إلـى رصيد همجيته من خلال الهجوم على لبنان بدأ بتفجير الهواتف اللاسلكية واغتيال حسن نصر الله رحمه الله وتقبله في الشهداء هو وباقي رفاقه في المقاومة اللبنانية، كل ذلك قدم دليلا قاطعا لمن ما زال يوهم نفسه بجدوى التطبيع والثقة فـي كيان فُطر علـى المكر والخديعة ونكث العهود. تُرى كيف السبيل لعدم الارتياب مما يُسمى تعاونا عسكريا أو استخباراتيا أو علميا لتبادل الخبرات مع من نقضوا عهودهم مع الله تعالى؟ ألم يتيقن بعدُ المهرولون للتطبيع وتمكين الكيان من المؤسسات الحيوية عسكرية كانت أو علمية أنهم خانوا أمانة الذود عن أمن شعوبهم وبلدانهم؟ ما الذي يكبح جماح كيان مجبول علـى الغدر من استهداف من وثقوا فيهم وسلموه مفاتيح مقدرات الشعب وسيادته؟

طوفان الأقصى كان المبتدأ وفـي جميع المجالات، وعلـى كل المستويات، والخبر بعد انقشاع غيوم العدوان ولملمة الجراح وعـي جديد وفجر عزة للأمة وعموم المستضعفين يقطع مع الاستكبار والاستعباد لإنسانية الإنسان هضما لحقوقه واستباحة لكرامته.

فتحية إكبار للمقاومة الفلسطينية وحاضنتها الشعبية، والخزي والعار لكل خائن متخاذل قايض قضية شعب ومقدسات أمة بمتاع من الدنيا هزيل أو كرسي حكم زائف. ولا نامت أعين الجبناء. وإن غدا لناظره لقريب. ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.