الفقه الانشطاري
لا يستقيم شرعا تقسيم مجتمع المسلمين إلى فسطاطين: فسطاط إيمان وفسطاط كفر، حزب لله وحزب للشيطان، إذ أن المعصية دركات بنص القرآن، قال تعالى: وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ ٱللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ وَٱلْعِصْيَانَ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلرَّاشِدُونَ [الحجرات: 7]، فالكفر أشدُّها، والفسوق دونه، والعصيان أخفّ، كما أن الطاعة منازل ودرجات؛ فالإيمان يزيد وينقص؛ وقد يدعي المرء الإيمان وهو لمّا يتجاوز مرتبة الإسلام كما حكى الله عز وجل عن الأعراب: قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الحجرات: 14]. وقد ثبت في الحديث الصحيح أن الدين إسلام وإيمان وإحسان، فالدين مقامات يرفع الله إليها من شاء من عباده.
ونحن إذا نظرنا إلى مجتمع المدينة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وجدناه مجتمعا تتنوع طبقاته الإيمانية، فهناك أهل السابقة من المهاجرين والأنصار الذين لا يستوي معهم مرتبةً مسلمةُ الفتح، ثم هناك الأعراب الذين يبعدون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سكنا وإيمانا، وهم خليط غير متجانس، فمنهم مَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ ٱللَّهِ وَصَلَوَاتِ ٱلرَّسُولِ [التوبة: 99]، ومنهم أعراب أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ [التوبة: 97].
فمن استوى فقهه على أن مجتمع المسلمين فسطاطان، شطر الناس إلى قسمين: بعضهم متّهِم وأكثرهم متّهَمون. وعن مثل هذا الفقه تتوالد الجماعات التكفيرية التي تحكم بردة العصاة من المسلمين أو من خالف اعتقادها أو فتاواها؛ وما يزال الأمر بها حتى تستحلّ دماءهم، ثم تعلنها حربا ضروسا ضدهم. وتترسب في القاع عند هؤلاء أحاديث النبي المختار صلى الله عليه وسلم الداعية إلى الرفق والرحمة بعيال الله لاسيما زمن الفتن؛ وتطفو عندهم على السطح أحاديث تنزع من سياقها وتوضع في غير موضعها، نحو: “جئتكم بالذبح” و”أنا نبي الملحمة” و”أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله”…
فقه متوارث
والغريب أن كل هذا العنف المدمر يأتي من أناس يذهب بهم الظن أنهم قد ملكوا جماع العلم، وأن كل من خالفهم وجبت استتابته أو كفر بصريح اللفظ، لا يمنع من تكفيره أن يكون المرء من العلماء المبجلين، أو المجاهدين المستضعفين، أو من فضلاء المفكرين… بل تجد منهم فرقا همها التنقيب في صدور الناس لمعرفة ما يقولون في الذات والصفات، والتوسل والكرامات، ليمنحوهم صكوك الاعتراف بحسن الاعتقاد، أو يتوعدوهم بأشد العذاب.
إن الفقه التكفيري المتوسل بالعنف ليس وليد اليوم؛ بل فصوله كتبت منذ أمد بعيد في تاريخ المسلمين، والجامع في هذا الفقه خاصيتان: الذهنية التسطيحية، والإرادة التدميرية. وانظر إلى عجب عبد الله بن عمر من “رجل من أهل العراق سأله عن المحرم يقتل الذباب؟ فقال: أهل العراق يسألون عن قتل الذباب وقد قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هما ريحانتاي من الدنيا” 1.
ويحكي ابن الأثير أنه في أول القرن الرابع “وقعت فتنة عظيمة ببغداد بين أصحاب أبي بكر المروزي الحنبلي وبين غيرهم من العامة؛ ودخل كثير من الجند فيها. وسبب ذلك أن أصحاب المروزي قالوا في تفسير قوله تعالى: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا هو أن الله سبحانه يقعد النبي معه على العرش، وقالت الطائفة الأخرى إنما هو الشفاعة. فوقعت الفتنة، واقتتلوا فقتل بينهم قتلى كثيرة” 2.
فأي قلب للأولويات هذا، وأي تهمم بالجزئيات، وحفظ الله الشيخ العلامة يوسف القرضاوي فما زال يذكر المسلمين أن معركتنا يجب أن تنبني على فقه الأولويات. ورحم الله الشيخ الغزالي فقد رحل وفي قلبه غصة كبرى من هذا الفقه البدوي الذي يقترح نفسه القائد للناس، ولا يرضى أن يعارضه أحد، بل يريد أن يشاركه الجميع قضاياه الضحلة، وينضبط لفتاواه الشاذة. وما زال الغزالي يؤنب العلماء الذين تراجعوا إلى الصفوف الخلفية يبتغون متاع الدنيا تاركين إمامة الناس لمثل هؤلاء، “ولذلك خلا الطريق لكل ناعق، وشرع أنصاف وأعشار المتعلمين يتصدرون القافلة ويثيرون الفتن بدل إطفائها. وانتشر الفقه البدوي، والتصور الطفولي للعقائد والشرائع” 3.
اكتب لي العلم كله
إن المرء ليعجب كيف أن النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، وجعل من قتلها كمن قتل الناس جميعا، يعجب ممن يلوي نصوص القرآن وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم ليسوغ أعماله الإجرامية التي لا تسند مقاومة ولا تدفع احتلالا، بل يدعي أهلها أن عملهم من صلب العلم، ولعل أول العلم الذي يجب أن يسود كل وسط أن فقه التقتيل والاغتيال لا موجب شرعي له، وأن أصحابه أولى أن يقام عليهم حد الحرابة من أن يعد فعلهم جهادا، وقد استساغ أعداء الدين فعلهم، فمكروا بهم، وزجوا بهم في المعركة الخطأ؛ ثم بعدها يعتقلونهم ويمنّون على الناس أن قد حموهم من شرورهم، فإذا بمن أراد أن ينقض سلطة تحكم بغير ما أنزل الله قد منحها شرعية ما كانت تحلم بها. ولعل النصح لمثل هؤلاء أن نعيد جواب عبد الله بن عمر لرجل سأله: “أن اكتب إلي بالعلم كله. فكتب إليه: إن العلم كثير ولكن إن استطعت أن تلقى الله خفيف الظهر من دماء الناس، خميص البطن من أموالهم، كافّ اللسان عن أعراضهم، لازما لأمر جماعتهم، فافعل” 4.
إن في جواب الصحابي الجليل أن العلم الذي لا يثمر عملا صالحا عدمه خير من وجوده، وإنما تتالت الآيات الكريمات جامعة بين الإيمان والعمل الصالح، لأن العلم بلا عمل وسيلة بلا غاية، والعمل بلا صلاح فعل بلا هداية.
لقد ابتلي العمل الإسلامي بأناس ينتسبون إليه جلف الطباع، غلاظ القلوب، بدويي المزاج، عنيفي التصرف، وتجدهم النموذج المحبب الذي تتناقل وكالات الإعلام العالمية أنشطته وصوره وتصريحاته، فيتوهم بعض الناس أنهم النموذج الذي يمثل الإسلام في طهرانيته، ويكفي أن يستمع خالي البال إلى تصريحات بعض رموزه النارية ليستعيذ بالله من هؤلاء الإسلاميين الذين لا يدفعون إلا بالتي هي أخشن.
دعاة لا قضاة
إن التنظيمات الإسلامية خبرت هؤلاء منذ أمد بعيد، منذ كانوا يرون أن العمل التنظيمي الإسلامي بدعة، وأن الديمقراطية كفر، وأن الخروج على “ولاة الأمر” خروج عن جماعة المسلمين وعن الدين. وكانت أنظمة الاستبداد سخية في المد لهم: تطبع كتبهم في الحلل الزاهية وتعممها على المكتبات بثمن بخس، وكانت مواضيعها تدور حول المس الشيطاني، والتداوي بالأعشاب، وتصحيح العقيدة، ومفردات التوحيد… كما كان من أولوياتها الطعن على أئمة العمل الإسلامي وتكفيرهم ووصمهم بكل النعوت المشينة، ويكفي أمثلة على ذلك أن تسمع رموزهم تتحدث عن الشهيد سيد قطب فيقول قائلهم:”وقال سيد في الضلال!” يقصد بذلك تفسيره: في ظلال القرآن، وإذا طفت على المكتبات صدمتك عناوين كتبهم المشنعة على يوسف القرضاوي وعبد السلام ياسين وراشد الغنوشي وفهمي هويدي … وتجاهلت الحركة الإسلامية الرد عليهم متصدقة بأعراضها، فإنما يكون العمل ابتغاء مرضاة الله لا انتصارا لأوهام النفس.
ثم انتقل هذا الفقه التبسيطي بعد حرب الخليج الثانية إلى الانتظام في جماعات تغايرت أسماؤها وتوحدت مصادر معرفتها وطرق عملها، ولم يكن لشيوخها خبرة تدبير التنظيم وهم من نبتوا على الجدل والخلاف، ولم يكن في فقههم قبول رأي المخالف وتدبير النزاعات بفقه شوري، وورد على الجماعات شباب لم يجد في التنظيم محضن تربية تطفئ غلواءه، وتشذب نوازعه، وتعالج أهواءه، وترسخ في ذهنه أن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إنما هي رحمة للعالمين، بل زكت في ذهنه فقه التشطير، وما إن يحفظ أحدهم بضعة أحاديث حتى يعلن نفسه أميرا وجبت بيعته، ومن ثم طاعته، ومعلوم أن كل فقههم مبني على الثنائيات: الأنا والآخر، دار الإسلام ودار الحرب، الولاء والبراء، الحلال والحرام، السنة والبدعة، الإسلام والجاهلية، والفرقة المهتدية والفرق الضالة… حتى قال لسان حالهم: نحن في الجنة وغيرنا في السعير.
وإذا كان مبنى تنظيمات الحركة الإسلامية التاريخية على الدعوة إلى الله عز وجل، فقد رجح عند هؤلاء أنهم قضاة يطلقون الأحكام وتسعى جماعاتهم إلى تنفيذ الحكم الشرعي مع غياب السلطة الشرعية المخول لها ذلك، ورحم الله الشيخ الهضيبي فقد ترك عنوان كتابه “دعاة لا قضاة” شعارا متوارثا بين أبناء الحركة الإسلامية يميزون به بين من دعوتهم رفق ورحمة وتيسير وتبشير، ومن فتاواهم دعوة عنف وكراهية وتشديد وتنفير. وقد تجد في هؤلاء حسن طوية، ولكن يغيب عنهم وضوح الرؤية، كما تجد عندهم بعض الحق ولكنهم يتوسلون إلى إحقاقه بالباطل، كما تجد عندهم حرقة على غياب شريعة الله ولكنهم يهملون سنته في الكون القائمة على التدرج، وإنما يجتمع كل ذلك عند من رزقه الله رحمة في القلب وحكمة في العقل، وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ [البقرة: 269].