قامت إسرائيل على تنبؤ يحمل فكرة جوهرية تقوم على أساس إقامة مملكة صهيونية في الأرض الموعودة قابلة للامتداد، لا تنتهي حدودها إلا عند انتهاء زحف جيوشها، أملا في السيطرة على العالم، فشعبها شعب الله المختار الذي يسمو فوق كل اعتبار، وكل القوانين، له كل الحق في العيش الكريم والآمن حتى وإن تطلب ذلك إبادة جماعية، وتطهيرا عرقيا للاستيلاء على أرض مقدسة، فتسلحوا بسلاح الجو والبر والبحر يرهبون به من بقي من أهلها، وينهجون سياسة التجويع والتهجير والتقتيل، يعيثون في الأرض فسادا وإفسادا واستكبارا، حتى اقتنعوا بأنهم القوة التي لاتقهر والجيش الذي لايهزم… تعضضهم في ذلك قوى الاستكبار العالمي، وترسانة الإعلام المتحيز للظالم المغتصب يصوره في صورة المظلوم الذي يدفع الشر عن نفسه، وهذا حق له مكفول بموجب القوانين الدولية!
فجأة استفاقوا من حلم دام عقودا على حقيقة كشفت الوهم الذي سوقوا له، نتيجة صفعة قوية تداعى لها كل الجسد الصهيوني، من طرف طائفة صامدة تحققت في الرجل منها كفاءتا القلب والعقل، الإيمان والعلم، فحققت معجزة في لحظة انتصار تاريخية قلبت الموازين العالمية، لحظة هجوم على روح الصهاينة بقوة تفجيرية شتتت تفكيرهم ووعيهم وهزت تلك الثقة الموهومة بالنفس، لتذكرهم إن هم نسوا بقاعدة مفادها: الاحتلال مهما طال فمآله الزوال، والحق الفلسطيني في المقاومة لتحرير أراضي المسلمين ومقدساتهم لا يطاله التقادم ولا يطويه الزمن ولا ينسيه، خاصة وأن المرجع هو وعد إلهي صادق، ونبأ من رب العالمين في القرآن الكريم بوعد الآخرة، قال تعالى: وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ۚ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (سورة الإسراء، الآيات 4 – 7). يقول الإمام عبد السلام ياسين: “وعد الآخرة مواجهة واسعة بين أهل الإيمان وأهل الكفر، واليهود بعَدَدِهم وعُدَدِهم أقل وأذل من أن يشكلوا جبهة تقارن بأمة الإسلام” 1.
جاءت عملية طوفان الأقصى لتتوج الجهود التي بذلت لامتلاك وسائل النصر وأسبابه وإعداد العدة للمواجهة، فقهوا سنن الصراع بين الحق والباطل، وحققوا شروطه تحت الأرض وفوق الأرض، فدخلوا التاريخ بإيمانهم وبحكمتهم وعزمهم وعزتهم وشيمهم. فاستحقوا وصف الطائفة الظاهرة على الدين، باعوا أنفسهم لله فربحوا البيع؛ إما بالنصر أو الشهادة. قال الله تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (سورة غافر، الآية 51) وقال عز وجل: فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ۖ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (سورة الروم، الآية 47).
ومن شدة الصدمة والألم، وحبا في الانتقام واسترجاع الهيبة سخر كل ما يملك من ترسانة عسكرية وتقدم تكنولوجي، ودعم أميريكي غير مشروط عسكريا وسياسيا واقتصاديا وإعلاميا، من أجل القضاء على المقاومة، وعندما عجز قام بهجمة شرسة همجية لا تبقي ولاتذر من الحجر والشجر والبشر، حتى لم يعد وصف النازية المتوحشة كافيا للتعبير عن المجازر والمحارق التي اقترفها في حق أطفال ونساء ورجال عزل، بل وصف الصهيونية سيتصدر كل الأوصاف فهو أدق في الإفصاح عن بلوغ الذروة في التقتيل والتنكيل والتهجير دون منافس، كيان قام على أشلاء الإنسانية، واستمر وجوده على الجثامين الإنسانية، ويريد أن يمتد بسفك الدماء الإنسانية، إنه الشر المتجذر المنحدر المعادي للإنسانية السامية، تظهر تجلياته في مشاهد الدمار وصور الخراب وصرخات الفقد التي تنقل إلينا عبر الشاشات مباشرة، فما تكاد تنهي قراءة عاجل مفجع حتى يلحقه عاجل أفجع منه. يتخللهما ثالث يصور الشجاعة والإقدام والصمود والحكمة والذكاء.
أمام هذه الوقائع كلها، تختلط المشاعر وتتداخل بين مشاعر الحزن والأسى حيال مشاهد القصف القاسية والموت والتدمير والتهجير والتجويع وفقدان كل مقومات الحياة، أي حياة. ومشاعر الخذلان بالنظر إلى تمالؤ الاستكبار العالمي، وصمت أنظمة العض والجبر الذي لا يوحي إلا بالمباركة وبالمشاركة في المؤامرة، فكشف الغطاء الذي كان شفافا في أصله على كل الادعاءات التي تشيد بكونية حقوق الإنسان وعدالة المواثيق الدولية، وعجز المؤسسات الضامنة للسلم والأمن العالمي، وجمعيات حماية المرأة والطفولة، بل والحيوان والبيئة. ومشاعر العزة والكرامة والفخر؛ بالنظر إلى أداء المقاومة وصمود البيئة الحاضنة رغم ما تعيشه من أوضاع كارثية، والإصرار على مواجهة الظلم والطغيان تحت شعار (وإنه لجهاد؛ نصر أو استشهاد)، وذلك بما استطاعوا أن يصلوا إليه من إعداد وسائل القوة.
وأمام هذه الأحداث والوقائع يلزمنا النظر إليها بنظرين:
نظر إلى قدر الله المقدر الذي لا يخفى عليه من شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، فكل ما يجري في كون الله هو تدبير من الله تعالى، وبمشيئته بمقتضى علمه وحكمته ورحمته، هو أعلم بأحوال المظلومين فهو العليم، وهو أرحم بهم فاسمه الرحيم، وهو حكيم في فعله لا يتصرف عبثا بل لحكمة مقصودة أطلعنا على بعضها وخفي عنا البعض الآخر، ليترسخ اليقين في أن التمكين حليف الذين آمنوا وصبروا، والنصر وعد من الله لمن آمن وأصلح. والنصر قد يكون فوزا ونجاحا في الدنيا وقد يكون سعادة وفلاحا في الآخرة. وهذا يبعث الطمأنينة والسكينة وعدم الجزع.
والنظر الثاني هو التدبير المحكم للواجب في هذا الواقع، إذ إن الاهتمام بشؤون المسلمين من صميم العقيدة الإسلامية، ومن واجبات الأخوة الإيمانية النصرة لهم بكل أشكالها ومقتضياتها ومجالاتها. ويصبح الأمر أكثر وجوبا إذا كانوا من الطليعة المجاهدة الواقفة على ثغر حماية بيت المقدس، والنصرة تكون باليد لمن استطاع، وباللسان والقلم، وبالقلب أضعف الإيمان، ويبقى الدعاء سلاح من لايملك السلاح ومن بيده السلاح سواء.
وفي الختام نؤكد أن القضية الفلسطينية ماتزال وستبقى القضية المركزية التي توحد شعوب الأمة الإسلامية والعربية، باعتبارها البوصلة التي تحدد مسار الأمة ومصيرها، والمؤشر الدال على مستوى وعيها وحضورها، والحاكم الأساسي على موتها أو حياتها.