ما أشبه فلسطين بالنبي يوسف عليه السلام، وما أشبه الأنظمة العربية بإخوته الذين أرادوا التخلص منه ليخلو لهم وجه أبيهم. ثمة وجوه للشبه عديدة بين القصّتين سنحاول إماطة اللثام عنها بما يساعدنا من استحضار تاريخ القضية الفلسطينية والمخططات التي مرت منها، وكيف شكلت كل المحن والمآزق التي شهدتها منعطفات ولحظات فارقة في بعث القضية وخروجها من دهاليز المؤامرات والمعاهدات والاتفاقيات. لقد بدأت القضية الفلسطينية ساطعة مثل رؤيا يوسف، لكن سرعان ما أريد لها أن تلقى في غياهب الجب وتباع بدراهم معدودات أو تسخر لخدمة ذليل مصر. على هذا الأساس تعمد المتآمرون أن ينزلوها رويدا رويدا في بئر النسيان والتهميش لعلها تصبح قضية مهمولة لا تخص إلا أصحابها، وبذلك تدحرجت قضية فلسطين تباعا على النحو التالي :
– من قضية إنسانية عالمية إلى قضية العالم الإسلامي، ثم إلى قضية عربية، ثم إلى قضية إقليمية، ثم إلى قضية دول الطوق، ثم إلى قضية داخلية.
– من جلسات الأمم المتحدة إلى مؤتمرات الدول الإسلامية، إلى القمم العربية، إلى مصالحات وطنية.
– من معركة تحرير لكل الوطن (أراضي 1948) إلى معركة استرجاع بعض الوطن (أراضي 1967)، ثم إلى المطالبة برفع الحصار عن مدينة غزة، ثم إلى الرفع من عدد الشاحنات مع وجود الحصار، ثم إلى استجداء المنتظم الدولي بإيقاف المستوطنات…
– من معركة الجيوش العربية إلى معركة دول الطوق، ومن معركة دول الطوق إلى مقاومة منظمة التحرير الفلسطينية، ومن المنظمة إلى الفصائل…
– من منظمة تحرير مكافحة ومقاومة بالسلاح والسياسة إلى سلطة حارسة لأمن الكيان الصهيوني عبر التنسيق الأمني، مقابل استخلاص الضرائب وتسيير البلدية.
– من اتفاق سلام دولي تتعهده دول عظمى إلى مبادرة عربية، ثم إلى محادثات بين السلطة والكيان الصهيوني.
– من رفض التفاوض مع مغتصب الأرض ومصافحته، إلى اتفاقية كامب ديفيد الأولى، إلى اتفاق أوسلو، إلى كامب ديفيد الثانية، إلى العقبة، ثم إلى صفقة القرن والتطبيع المشؤوم واتفاق أبراهام…
– من المطالبة بالأرض ورفض السلام إلى المطالبة بالأرض مقابل السلام، إلى المطالبة بالسلام من أجل السلام ولا تهم الأرض…
– من وحدة الوطن المتمثلة في كل فلسطين من النهر إلى البحر، إلى الوحدة الوطنية متمثلة في سلطة تدير الضفة وغزة (اتفاق غزة- أريحا).
– من الجنيه الفلسطيني، إلى الشيكل الفلسطيني، إلى الشيكل الجديد الصهيوني.
– من المؤتمرات إلى المنتديات إلى الورشات
– من الاتفاق إلى الصفقة…
فهل يا ترى وصلنا إلى القعر أم أن بئر الذل ما يزال عميقا؟
والسؤال متى سيأتي العزيز بسيارته لإخراج القضية من غياهب الجب الصهيوني العالمي، فيحسن مثواها بعدما حاول الإخوة قتلها طوال كل هذه المدة، بل ظنوا أنها ماتت وانتهت. إن فلسطين هي يوسف عليه السلام وإن يعقوب هذا الزمن هي الأمة الإسلامية والعربية، التي كم طال حزنها وابيضت عيناها، وكم من صبر جميل حملت، وهي ترى حكام العرب إخوة يوسف لا هَمَّ لهم سوى البضاعة والكيل والمتاجرة في القضية، وإن أراد الكيان الصهيوني أخا آخر ليوسف أي وطنا آخر للتوسع فهم مستعدون لتقديمه، قولهم “ إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل“.
خسئت صفقتكم أيها المنافقون، فما عدنا بعد اليوم نُسِرّ القضية كما أسررناها في أنفسنا من قبل. فيا حكام الخزي أليست فيكم ذرة خجل؟ لقد أكلتم كل السنوات السمان وحدكم، وها هي تَمُرُّ السنوات العجاف بعد الربيع العربي، وستتلوها سنوات شداد علينا وعليكم، ستكون الحاسمة والفاصلة، بعدها سيغاث الناس ويحصحص الحق، فيأتي العرب والعجم وكل أحرار العالم ليسجدوا على أرض فلسطين المباركة بعدما تآمروا عليها، وحاولوا قتلها، واتهموا أهلها المجاهدون بالخيانة والإرهاب، وكذلك فعلوا مع كل أخ يمدهم بيد العون في كل الأمصار. لا تحجبنا أحداث الصُّوَاعِ والمقايضة وجعجعة البضاعة عما يجري في غزة والضفة من طوفان وما يرافقه من حراك عالمي مبارك سيحصد سنابل الحكام اليابسات، ليزرع حكما راشدا تصبح فيه الأمة مصرا واحدا، عزيزها واحد، ويوسفها فلسطين كل فلسطين. حينها فقط ستعود فيروز لا لتقول “وحين هوت مدينة القدس تراجع الحب وفي قلوب الدنيا استوطنت الحرب”، بل لتقول للعالم أجمع وبلغة الحب والسلام ما قاله يوسف ونبينا عليهما السلام لإخوتهما: “لا تثريب عليكم اليوم”.
فمنذ ذهاب الدولة العثمانية ألقى الإخوة الصغير يوسف في بئر الاستعمار البريطاني، ليباع بثمن بخس للصهاينة اليهود، فَتَحَمَّل القتل والتهجير على أن يبيع الأرض أو يتنازل عنها، وكله يقين أي يوسف في رؤيته المحررة لفلسطين، والتي تبشر عاجلا أم آجلا بسجود كل قوى العالم إجلالا وإكبارا لها.
إلى ذلكم الحين اذكروا فلسطين عند ربكم وفي كل منتدياتكم حتى تستيقظ العزة في نفوسنا وتحل روح العزيز فينا، لِنُخْرِجَ رؤيا فلسطين من سجن الأماني المعسولة إلى أرض التمكين والنصر، فيعم العالم التعايش والسلام بعد اجتثاث جرثومة الصهيونية من فلسطين ومن كل جسد العالم الحر.
فسلام على يوسف،
وسلام على فلسطين،
وصبر جميل ليعقوب
في انتظار القميص الذي
سيعيد لنا البصر والبصيرة
لنرى طريق التحرير نحو القدس!