لا تخلو الحياة الأسرية من بعض الخلافات والمشاكل التي تمر بشكل عارض، وقد لا نعيرها انتباها كافيا ولا نحاول حلها بشكل حاسم فتتراكم وتتفاقم حتى تصير أكثر تعقيدا. وقد تسبب الغلظة والشدة والخشونة في التعامل نفورا وتشنجا بين الزوجين. ومن القواعد التي أرساها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرشد إليها “فن المداراة” كما جاء في الحديث الشريف عن ابن زيد عن سعيد بن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، ولن يهلك امرؤ بعد مشورة”.
فالمداراة ملاينة الناس وحسن صحبتهم واحتمالهم، وهي من مصلحات البيئة الزوجية، بل من أساسياتها، فما أحوج الزوجين إلى هذا الخلق الرفيع الملطف للعلاقات، والمساعد على بناء أسر قوية متينة يطبعها الاستقرار والتوازن، أسر مبنية على المودة والرحمة والتعاطف والتياسر، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في ملاينة أهله وكسب ودهم، وقد وصفته أمنا عائشة رضي الله عنها عندما سئلت عن حاله إذا خلا بنسائه، قالت: “كان كرجل من رجالكم، غير أنه كان من ألين الناس (وفي رواية: أكرم الناس)، وأحسن الناس خُلقًا، وكان ضحَّاكًا بسّامًا” 1.
فالمداراة مرتبطة ارتباطا وثيقا بحسن الخلق الذي تكلم عن منهجه السلف والخلف وجمعوا فيه بين الصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء والرضا بمر القضاء.
وحتى عندما سأل أبو هريرة رضي الله عنه، رسول الله عليه أزكى الصلاة والسلام عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، قال: “تقوى الله وحسن الخلق”.
فالعلاقات الزوجية، بل والأسرية كلها، ينبغي أن تحظى بالحظ الأوفر من ذلك، لأنها علاقة مستمرة عبر الزمان والمكان، تقتضي بذلا متبادلا وخفض جناح وكياسة وصبر ومصابرة ليبقى الميثاق الغليظ متماسكا.
وأود أن أورد هنا قصة “عيينة بن حصن” مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لنستخلص منها دروسا وعبرا تكون نبراسا لنا في تدبير الاختلاف والتخفيف من حدته ووقعه على أسرنا.
فعيينة بن حصن كان من المؤلفة قلوبهم من الأعراب الجفاة كما ورد في كثير من السير، كان فظا غليظا، جريء اللسان، وقد قيل أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم من غير إذن فقال له: “أين الإذن؟” فقال: ما استأذنت على أحد من مضر، فلم يكن يجدي معه لفظاظته وغلظته سوى قول الله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ.
ففي الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: “قدم عيينة بن حصن فاستأذن على رسول الله عليه الصلاة والسلام، هذا الغطفاني الفزاري قال: “ائذنوا له بئس أخو العشيرة”، فلما دخل انبسط له صلى الله عليه وسلم وكلمه، فلما خرج قلنا: يا رسول الله قلت في عيينة كذا وكذا، فلما دخل انبسطت إليه وحييته، قال: “إن شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه”. وفي رواية: “يا عائشة متى عهدتني فاحشا؟ إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره” أي مداراته التي ليست مداهنة، بل تداري الناس وتعاملهم بالتي هي أحسن؛ ببسمة، بطلاقة وجه وبشر، بكلمة طيبة مشجعة ومبشرة، وقد تثني على من قدم خيرا، وتشكر أهل الفضل على فضلهم، فتلك قمة أكارم الأخلاق.
وإن كان هذا التعامل الراقي حتى مع من نخالفهم ويخالفوننا الرأي وقد قال فيهم الله عز وجل: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فالمفروض أن تكون المعاملة لأقرب المقربين إلينا أعظم من ذلك كله ابتغاء رضا الله تعالى والتماس فضله وإحسانه.
وقد تحدث الإمام المجدد رحمه الله تعالى في التنوير على أهمية وضرورة فقه المعايشة في الحياة الزوجية قائلا: “لزواج تلاطف وتعاطف، والخشونة علاج مشروع لحالات شاذة، أو تسلط من قِبَل رجل لا يحسن القيام بمأموريته ومسؤوليته، فيفشل في سياسة سفينته وتوجيهها، فلا يشعر إلا وهي نهبٌ للصخور والمخاطر، فيعنُفُ ويتخبّط ويَخْبِطُ. الزواج ألْفةٌ وقربٌ، والخشونة نُفور وإِبعاد“ 2، وقال في موضع آخر: “المداراة تعني السياسة الكيِّسة، ومراعاة نفسية المرأة، وما جُبلَت عليه مما لا يتفق وأسلوب الرجل في الحياة وطريقته في التفكير، ومنطِقهُ في تصنيف أهميات المعاش وأولوياته” 3.
فلتكن مداراتنا في زمن الجذب أمطار الرحمة التي تنبت الزهر وترعاه حتى يستوي قائما، قد نتغافل ونتجاوز ونغمض أعيننا على أشياء كثيرة لأننا نريد لسفينتنا أن تبحر إلى بر الأمان.
ونجعل علاقتنا تتأسس على تقوى الله عز وجل، ممتدة إلى الآخرة، قال تعالى: جَنّاتُ عَدْن يَدْخُلونها وَمَن صَلَحَ مَن آبَائِهم وَأَزْواجِهم وَذُريّاتهِم والَمَلاَئِكة يَدْخُلُون عَلَيْهِم مَن كُل بَاب (الرعد، 23).