(1)
هل يصحّ أن نستدعي مفهوم “النشوء والارتقاء” من علم الأحياء ونُسافر به لنطبّقه على كتابات الأستاذ عبد السلام ياسين وفكره؟ وإلى أي حدّ يُفيدنا مفهوم “الثابت والمتغير” في فهم هذا التطوّر، إن حصل وسلّمنا بحدوثه؟
منذ البداية أؤكّد أنه لا يمكن أبدا للقارئ لكتابات الأستاذ عبد السلام ياسين إلا أن ينتبه لنوعية التطور الذي وقع لفكره على طول مساره، باعتباره مفكرا، منذ أن سطّر أول كتاب في مشروعه التفسيري التغييري؛ فالبون شاسع بين النشوء والختام، وإنّه ـ بالفعل ـ مرّت مياه كثيرة تحت الجسر كما يُقال عادة في مثل هذا السياق. من أجل ذلك ننصح كل دارس لفكر الرجل أن يقرؤه حسب سنوات الإنتاج وليس تبعا لأعوام الطبع. وهذا الأمر ـ في الحقيقة ـ ليس خاصا به وحده، ولكنّه سنّة الله في كلّ مَن قرّر أن ينشر في الناس آراءه وتأمّلاته الفكرية، ويمكن أن نستثني هنا الكتابات الإبداعية؛ مثل الشعر والرواية وغيرهما، التي كثيرا ما انفجر مُبدعوها منذ بواكر أعمالهم على نصوص مازالت تمثّل ذروة الإبداع وستستمرّ ـ لا شك ـ في خلودها.
ليس هذا المقال القصير في التّأسيس والتّأصيل وبناء الحجة للتدليل على دعوى، إنما هو مخصّص لإطلاق حُكم والتمثيل له بنماذج تطمح لإثارة الانتباه لتلك الدعوى وذلك الحُكم، وسأكتفي هنا بإيراد خمسة أمثلة لما أطلقنا عليه بالتّطوّر في فكر الأستاذ ياسين وتنظيراته:
أ ـ كل عناوين كتبه كانت في البداية تحتوي لفظة “الإسلام”؛ “الإسلام أو الطوفان”، “الإسلام بين الدعوة والدولة”، “الإسلام غدا”، “الإسلام وتحدي الماركسية اللينينية”، “الإسلام والقومية العلمانية”، “رسالة القرن الملكية في ميزان الإسلام”، “دولة الإسلام” (الذي طُبع مُفرّقا بعد سنوات من تأليفه حسب عناوين فصوله الكبرى: “رجال القومة والإصلاح” و”في الاقتصاد”…). سيدشّنُ الأستاذ التّحوّل مع كتابه الصغير والتأسيسي الموسوم بـ”نظرات في الفقه والتاريخ”، ثم سينطلق في هذا المسار مع الكتب ذات النفس الحواري؛ مثل “حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، و”حوار الماضي والمستقبل” و”حوار مع صديق أمازيغي” و”العدل: الإسلاميون والحكم”، ولن يعود إلى استعمال تلك اللفظة إلا بعد سنوات حينما اختار ترجمة عنوان كتابه الأخير ـ تقريبا ـ بـ”الإسلام والحداثة” لأنه وجد نفسه ملزما بهذا التّقابل ما دامت “الحداثة” تُقدّم نفسها بديلا عن كلّ الأديان. ونحن نُقدّرُ أنه انتبه أن إكثاره من استعمال لفظة “الإسلام” في عناوينه ربما أعطى لقرائه ـ خاصة ممن هم على خلاف معه، سواء كان هذا الخلاف تنظيميا أو فكريا أو أيديولوجيا ـ انطباعا بأنه يُماهي بين فكره وتصوراته وبين الإسلام، في حين ما فتئ يوضّح أنه مدرسة ضمن تيار الحركة الإسلامية الطامحة لتجديد الدين والإيمان في قلوب الناس وعقولهم. وما فتئ يتشدّد في نقد تيارات فقهية وفكرية كانت ومازالت تُقدّم نفسها بأنها الفهم الصحيح للدين، وأنها وحدها “الفئة الناجية”، وأنها الممثل الشرعي والوحيد لـ”أهل السنة والجماعة”.
ب ـ التّخلي بشكل نهائي عن استحضار نصوص بعض المتصوفة المُختلف في تأويل كلامهم، مثل ابن عربي، والسهروردي وعبد العزيز الدباغ، وكذا تجاربهم التربوية، واختيار الجلوس بين يدي الخطاب القرآني النبوي. فمثل هذه الأسماء حضرت وبقوة في كتابه الأول، ولكنك تكاد لا تجد لها ذكرا في موسوعته التربوية “الإحسان”، فإن أعجبته قصيدة من قصائد أولئك، ووجد أنها أحسن ما يُعبّر عن مُراده، فإنه يتركها غُفلا ولا يذكر قائلها، لأن المقصد التربوي التعليمي عنده فوق أي اعتبار آخر.
وهنا أطرح سؤالا طالما راودني: لماذا لا يستدعي الأستاذ ياسين في كتاباته التربوية نصوص المتصوفة المغاربة، وبالكاد يذكر النادر منهم في بعض لقاءاته؟ هل هو إقصاء وتهميش أم هو مُبرّرٌ بهدف وقصد؟
يعجّ المتن الصوفي المغربي بمقولات وتجارب أجدها تخدم خطاب الأستاذ ياسين ومسعاه التربويين، خاصة وأن هذا التصوف عُرف عنه، ومنذ البداية، اشتغاله بالعمل والابتعاد عن التفلسف، ومقولات وحدة الوجود، والحلول والاتحاد.
من جهتي أقدّرُ أن الأمر مرتبط أساسا بخوفه على تلامذته في تنظيمه؛ فالكثير من هؤلاء التلامذة، الذين يصحّ فيهم ـ تبعا لفهمهم ـ وصف “مريدين” لا شكّ “سيلتفتون” قلبا وفكرا إلى تلك الأسماء التي توجد أضرحتهم قريبة منهم، و”سيُخلّطون” بين توجيهات وأوراد يحذّرُ كلّ أرباب التربية من خطورتها.
ج ـ في البداية، ومع رسالته الشهيرة “الإسلام أو الطوفان” كان له أمل كبير في أن يدفع ملك المغرب لأخذ زمام المبادرة ويكون من ضمن الرجال الذين يقودون التغيير والتجديد الإسلاميين. في كتابه “الأول كان الأستاذ قد عقد فصله الأخير لما سماه بـ”لقاءات تاريخية”، وركّز فيه على تلك اللقاءات الحاسمة في تاريخ الأمة، والتي جمعت بين رجال “الرباط” ورجال السياسية، فكان يرجو أن ينسج على منوال تلك التجارب، ولكنه بعد ذلك سيعترف أنه كان غِرّا حينما راوده هذا الحلم، وسيتجلّى هذا التطوّر في الخطاب السياسي أكثر ما يكون في رسالته للملك الجديد “مذكرة إلى من يهمه الأمر”.
د ـ ترك الاعتماد على مضمون الفصل الرابع من كتابه “المنهاج النبوي” الذي وضعه في بداية الثمانينات من القرن الماضي ليرتّب به الشأن الداخلي لتنظيمه المسمى “جماعة العدل والإحسان”، لأنه ـ ومَن معه من مسؤولي الجماعة ـ وقفوا على حجم التطور الذي حصل في مجال التخطيط والإدارة والتسيير.
هـ ـ بعد وفاته، نشر تلامذة الأستاذ رحمه الله ـ وصيته، التي كانت من جُملة آخر ما أنشأه من مكتوبات. وفي هذه الوصية دفع نحو إحداث تحوّل كبير في أهم ركيزة من ركائز تصوره التربوي، وأقصد مفهوم “الصحبة”؛ فقد كان قيد حياته يقول بـ”الصحبة والجماعة”، وكان يشير إلى نفسه من طرف خفي بكونه المُرشد والمربي والدّال على الله، بل نجد تصريحا واضحا له في كتاب الإحسان، ولكنه بعد وفاته ترك لتلامذته مقولة “الصحبة في الجماعة”، وكان قد تشاور مع كبار تلامذته وخرجوا بقرار أن خليفته من بعده لن يتسمى بـ”المرشد” بل بـ”الأمين العام”، واستمرّت كتبه وأشرطته وتوجيهاته تقوم بنفس الوظيفة والدّور؛ فالصّحبة له بـ”الواو” والصحبة سارية بين تلامذة بـ”الفاء”.
(2)
ليتمكن أي فكر من أن يمتد في الزمان والمكان عليه أن يتميز بخاصيتين أساسيتين، بالإضافة إلى أخرى ليس المجال هنا لتفصيل القول حولها:
أ – أن يوسّع من مساحة المتغير فيه على حساب الثابت الذي ينبغي أن تضيق مساحته إلى حد كبير.
ب – وأن تكون نصوصه التأسيسية قابلة لتعدد التفسيرات، وغزارة التأويلات.
وبدون هذين المقومين نعتقد – يقينا – بأن هذا الفكر سينتهي تدريجيا بوفاة مؤسسه، وسيتخشب ويتحنط ويتكلس مع تلامذته المباشرين، الذين – عادة – ما يقدمون أنفسهم باعتبارهم “الأمناء” و”الأوصياء” الوحيدين على الفهم السليم لمتن المنظر، رافضين كل قراءة جديدة لا تنسجم مع فهمهم وتفسيرهم.
والأستاذ ياسين – رحمه الله – ترك ميراثا فكريا غنيا، يتميز – أساسا – بالعمق والتركيب، نابذا كل تسطيح وتبسيط. وكان دائما ما يطمح ويستبشر بأن مدرسته الفكرية ستلقى القَبول، وسيكتب لها الذيوع والانتشار بين الناس. ونحن القراء نسلم له بهذا الطموح المشروع، بل ونراه يتحقق بسلاسة وتدرج، لأن “نظريته” بالفعل شاسعة المتغير، وتسمح بالغزارة في التأويل.
إن الثابت الوحيد الذي ينبغي على تلامذة الأستاذ – رحمه الله – أن يعملوا على استقرائه وتوليده وتثويره هو تلك الرابطة التي كان يريدها أن تكون قوية ومتينة ومشبّكة بين مفهومي “الصحبة والجماعة”، وطبعا على القارئ النبيه أن يدرك – أؤكد على ذلك – أن تحت هذا الكلام علم كبير، فكل الأعطاب التي أصابت الأمة على طول تاريخها مردها أساسا إلى افتراق هذين المقومين بالحسنى مرة، وخصومة فاجرة مرات عديدة.
أما من يعتبر – من تلامذة الأستاذ ياسين – بأن “الخصال العشر” التي بسط الأستاذ الكلام عنها في العديد من كتبه، وما تحتها من شعب الإيمان، التي تصل إلى سبع وسبعين شعبة، فقد جانبه الصواب، لأن مساحة الثابت حينها ستكون شاسعة الوسع.
أما نحن فنعتبرها أعمالا قلبية وجوارحية، تربوية وسلوكية وأخلاقية لا تندرج أصلا في ثنائية الثابت والمتغير. فخذ مثلا شعبة “إزاحة الأذى عن الطريق”، أتراك إن لم تزحه ستكون قد أخللت بثابت من ثوابت “نظرية المنهاج النبوي”؟ إذن فما أكثر الثوابت التي ستتجاوزها ولن تلتزم بأدائها..!
إن التصور الفكري للأستاذ ياسين سيكون – مع مرور الأيام – في أزمة وجودية حقيقية إن أصر تلامذته – مثلا – على اعتبار كل اجتهاداته وتنظيراته وتصوراته واستشرافاته مكتفية بذاتها، غير قابلة للتنمية والتطوير، وسَيّجُوها بسياج الكمال. وهذا ما نستبعده من تلامذة نراهم في تصريحاتهم ومواقفهم يحسنون استنطاق النصوص التأسيسية ويتقنون التعامل مع الواقع السياسي المتغير.