إن تجسير الهوة بين مختلف العائلات السياسية في المغرب لن يتم إلا بالحوار، الذي يبقى أحد المداخل الأساسية، إن لم نقل أنجعها، لإنجاز التحول وتحقيق أكبر قدر من المكاسب، فضلا عن أنه اختصار للمسافات وتوفير للجهد في بناء المستقبل. ولخدمة هذا التصور سأركز على مستويين اثنين:
1- في الاقتناع بالحوار
إن أول لبنة في تدشين حوار مثمر هو الاقتناع بأن الاختلاف ظاهرة طبيعية وصحيّة، وأنه ليس معطلا ولا عاملا سلبيا في تطور المجتمعات والنظم السياسية، بل الإيمان بأهمية مدخل أساسي لبناء العلاقات على أساس من السلمية والقبول بالآخر والاستعداد لتقاسم الفضاء المشترك معه، وتدبير العلاقة في المجال الجامع الذي هي الوطن، فضلا عن أنه وسيلة سلمية تساهم في تضييق رقعة الخلافات. والحوار هو الأصـل في الكلام، والأصل في الحوار هو الاختلاف، فكما أنه لا يتم الحوار إلا بين طرفين، فإن الهيئات السياسية أو غيرها لا تدخل في حوار إلا وهي مختلفة، مع تباين شـدة ومستوى هذا الاختلاف. وفي المغرب، وفي ظل حالة الالتباس التي نعيشها جميعا في تدبير عدد من القضايا الاستراتيجية، يبقى إطلاق حوار جاد ومسؤول أمرا حيويا، فإلى الآن تسود لغة التخوين والتعصب والانفعال على النقاشات السياسية، فنسجل تدنيا كبيرا في لغة التخاطب السياسي، وقلة هم من يمدّون يدهم للحوار غير المحصور بالمكاسب السياسية اللحظية. حوار ينظر بعيدا ليجيب عن أسئلة جدية، ك: أي مغرب نريد؟ بدل هذه السطحية والمقاربات التقنية لأغلب الإشكالات التي ترهن مستقبل المغاربة، والتي أثبتت فشلها على كل حال، لأنها لم تكن مسنودة بحوار سياسي ومجتمعي حقيقي.
إننا نعيش حالة إهدار للزمن السياسي، عبر افتعال نقاشات هامشية، خدمة لاستراتيجيات تريد إطالة عمر الأوضاع القائمة. نعيش حالة كبح وبلوكاج تسعى لاستدامة الحالة الراهنة، والاكتفاء بديمقراطية الواجهة، وإصلاحات الواجهة، ومؤسسات الواجهة. الحوار الجاد محرّر للإرادات من الارتهان، وهو محرر للنقاش السياسي من السقوف المفروضة والمعدّة على مقاسات السلطة والقوى الراغبة في استدامة هذه الأوضاع التي حصدت الإجماع على أنها متدهورة وغير مقبولة، إن على المستوى الاجتماعي وما يتعلق بمعيش الناس، أو على المستوى السياسي والمنجز في تدبير العلاقات بين النخب السياسية، أو ما يتصل بالمجال الحقوقي وتوسيع هامش الحريات…
2- في الوعي بوجوب بناء المستقبل
إن أعباء الماضي تثقل كثيرا من الهيئات السياسية، وتدفع إلى توسيع الهوة مع أطراف من العائلة الفكرية ذاتها، وبالتبعية مع المخالفين. وهو على كل حال وضع ينتج الفشل ومزيدا من تعقيد المشاكل، ويرمي بالقوى السياسية الحقيقية والجادة إلى الهامش، مع إفساح المجال أكثر لنفوذ أوسع للكيانات السياسية التي صنعت في مختبر السلطة، أو تدور في فلكها، أو تخدم مصالح جهات بعينها، فيما القوى التي خرجت من رحم الشعب منهكة في الصراعات والتباين واتساع رقعة المختلف حوله. إن بناء المستقبل، والدفع في اتجاه تحول عميق، أو على الأقل إنجاز أكبر قدر من الإصلاحات، رهين بتقارب أكيد وملح بين الهيئات السياسية التي أنتجت في إطار ديناميات مجتمعية حقيقية غير مفبركة ولا مصطنعة.
إن تجربة مثل تونس تبقى دليلا على أن الحوار القبلي الرامي إلى تضييق رقعة المختلف حوله أقل كلفة وأكثر حيوية، فعندما وقعت الثورة كانت الهيئات السياسية أكثر تأهيلا من مثيلاتها في بلدان أخرى كمصر واليمن وسورية وليبيا، وقبلهما الجزائر. ومن أبرز مفاتيح فهم نجاح نسبي للتجربة التونسية أن الحوار بين عدد من المكونات كان استباقيا واستراتيجيا، انعكس بشكل إيجابي على تدعيم لحظة الانتقال الديمقراطي، رغم كل الملاحظات والنقائص، وكان داعما ومكملا لدينامية الشعب التي خرجت رفضا لدوام نظام بن علي واستبداده. في المغرب كانت 20 فبراير لحظة مهمة للتقارب. لحظة لجسّ النبض واكتشاف الآخر، لكن لم تثمر إلى الآن شيئا كبيرا، إلا علاقات تنتظر أن تتعزز أكثر بمأسسة الحوار وجعله معطى ضروريا ينتقل بالقوى السياسية المعنية من التنسيق اللحظي إلى التقارب البرامجي والتفاهم على أولويات محددة تشكل قاعدة عمل مشترك. وعلى كل حال، فإن الحوار لا يتم إلا بين المختلفين، أما المتفقون فلا حاجة لهم للحوار.
الحوار لا يكون إلا بين المهمومين بالمستقبل، وبأن هذا المستقبل لا يرحم، في ظل عالم متحرك لا يكاد يستقر على حال، مع الاقتناع بأن تعزيز الجبهة الداخلية بحوار جدي عامل حاسم في امتلاك القرار وعدم الارتهان للأجندات الخارجية. إن حسم النقاش بشأن الأولوية ضروري لحوار مفيد، فالسبح في عالم المتناقضات بين المختلفين ينتج الفشل والإحباط، ويورط المجتمع في نقاشات غير نافعة.