في بيتنا أشباح!

Cover Image for في بيتنا أشباح!
نشر بتاريخ

“سلمى إقرائي الفقرة الأولى وحددي فكرتها الأساس. سلمى ألم تسمعيني؟ لماذا أصبحت هكذا شاردة؟ أين شردت هاته المرة؟” رفعت رأسها وأجابت بصوت كأنه آت من قعر بئر عميق وبابتسامة ساخرة: “كنت مع الأشباح الذين يسكنون بيتنا” ثم أطرقت صامتة، تعالت ضحكات التلاميذ، وكسرت همساتهم هدوء الفصل، فأسرعتُ قائلة: “عمر اقرأ وأجب عن السؤال الأول”، تظاهرت بتجاهل جوابها وفي داخلي تساؤلات عن سر تغير سلمى، أيقونة القسم، هكذا كنت ألقبها، حازت حب الجميع بأخلاقها واجتهادها، منذ أكثر من أسبوعين وهي شاردة وقد علت وجهها سحنة حزن أخفت بريق عينيها العسليتين، تجلس وحيدة ولا تتفاعل مع الدرس بالأسئلة والأجوبة كما كانت، سألتها أكثر من مرة ما بك؟ فكان جوابها في كل مرة لا شيء.

هالني أمرها، هل هي مريضة وأصبحت تتخيل وجود أشباح؟ أم أنها تأثرت بأبطال القصص التي تقرؤها؟ فقد كانت شغوفة بقراءة القصص والروايات، إنها تذكرني بشغفي للقراءة، فقد كنت ألتهم كل ما يقع في يدي من قصص، لم أفكر أنه ربما بسبب مشاكل أسرية، وأنها تتمرد على وضع ما حتى كان يوم الامتحان، سلمتني الورقة بدون أجوبة، قلت لها وعقلي لم يستوعب فعلتها: “سأستدعي والديك”، أجابتني بأسى: “ليتك تفعلين”، أذهلني جوابها وأكد لي أنها تتمرد على وضع ما، أخذت بيدها، وقلت لها: “أخبريني ما بك؟ مم تشكين؟ ألا تقولين إنك تحبيني فلم لا تصارحينني وتحكي لي عما يساورك من هموم؟”.

أخرجت ظرفا ودفعته لي ثم خرجت مسرعة قبل أن تخونها دموعها التي كانت تحاول جاهدة ألا تسكبها. فتحته وأخرجت ورقة، كتبت أعلاها “في بيتنا أشباح”.

“بدأت أفتقد طعم حياتي ومتعتها منذ سُلبت مني أسرتي، ليس الموت الذي سلبني إياها بل هي حية ترزق -بارك الله لي في عمرها- ولكنها سطوة الشبكة الرقمية  التي غزت بيتنا بعد ممانعة ومقاومة من أبي خوفا من أن تجرفنا وتؤثر على أخلاقنا ودراستنا، ويا ليته لم يضعف أمام توسلاتنا واحتجاجاتنا… لم أكن أعرف مقدار السعادة التي كنت فيها حتى استحالت حياتي  موتا، بدأت أتفطن لعدة أمور كنت عنها غافلة، كنت أظن أني أعيش حياة عادية، كما نحب أن نعبر عن الاستقرار الذي نعيشه، ولكنها لم تكن عادية، فقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: “من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها”.

كل الدنيا كانت بين يدي، ولم أنتبه حتى افتقدت الأمان ودفء المشاعر، لم نعد كذاك السرب المجتمع في تحليقه المنسجم في حركاته…

كنا نجلس لحظات بعد مجيء أبي من العمل ومجيئنا من المدرسة، أنا وأختي الكبرى وأخي الصغير، حول مائدة الطعام التي حرصت أمي على تفاصيلها، كل منا يجد بغيته، فيها مما لذ وطاب دون إسراف، فقد كانت أمي تحسن تدبير ميزانية البيت بشهادة أبي الذي كان يمازحها وهي تحكي لنا أثناء التفافنا حول المائدة كيف استطاعت أن تدبر أمرها رغم غلاء الأسعار، كان يقول لها: أنت تستحقين أن تكوني وزيرة المالية، فتضحك فرحة بهذا الإطراء… سويعات هي، كنا نقضي معا، ولكنها كانت كافية لتلبي حاجتي من الحب والأمان بل وزيادة ، الكل يتحدث ويحكي عن يومه كيف مر، والجميع يصغي بكل جوارحه، قد تظهر أنها أحاديث لا قيمة لها، ولكن قيمتها تنبع من قائلها، تارة يحدثنا أبي عن يومه وعن عمله وتارة يحدثنا عن ذكرياته التي قضاها في أحضان أسرته الكبيرة حيث الجد والجدة والوالدين والأعمام… ذكريات ملؤها المحبة والصفاء، وتارة يحدثنا عن دراسته، كنا نستمتع ونمطره بأسئلتنا التي لا تنتهي، وتنقلنا أمي بحديثها إلى رحاب الجامعة، حيث تكمل دراستها فقد انقطعت بعد أن أنجبت أختي الكبرى وتفرغت لتربيتنا، كان يعجبني، وأنا المحبة للغة العربية، أن تتحدث عن بلاغة القرآن وفصاحته وعن اللغة وأسرارها، وأحيانا تنقلنا إلى السوق لتلج بنا إلى سر لذة ما أعدته من طعام، أما نحن فكان حديثنا  عن يومنا كيف قضيناه بحلوه ومره؛ فهذا أخي يشتكي صاحبه الذي خاصمه، وهذه أختي تتحدث عن ما ينتظرها من واجبات تنجزها وعن المدارس التي تحب أن تلجها، فهي في السنة الثانية من الباكالوريا… أحاديث لا تنتهي والكل في شغف لكي يرتوي…

فجأة، اختفى كل شيء، أمام إلحاحنا وتوسلاتنا، اشترك أبي في خدمة النت غير المحدود، فقد كان يشاركنا التغطية لمدة ساعة لإنجاز ما نحتاجه، لكن لم تكن كافية، فأذعن أبي لطلبنا شرط ألا نستعمله فيما يفسد أخلاقنا وألا يؤثر على تفوقنا في دراستنا،  بدأت هواتفنا تسرقنا تدريجيا، أصبحنا نسرع  لكي ننفرد بعالمنا الجديد الذي وجد الكل فيه بغيته،  وجدت عالما لا ينتهي من القصص والروايات، وأختي ما إن تنتهي من درس حتى تسبح في آخر، كان هاجس التفوق والحصول على الرتبة الأولى يحاصرها، أما أخي الصغير فقد وجد ضالته وهو المحب للفضاء وكواكبه، وجرفت أبي أخبار العالم وغزة وما يحدث فيها، فهو بين تحليل ومشاهد مباشرة، وتنتقل أمي بين محاضرة ووصفات جديدة وما استجد في عالم الديكور…

بعد ذلك، أصبحت أجهزتنا ترافقنا على المائدة، لم يعد يُسمع إلا صوت الأواني، كل مشدود إلى عالمه، لم تعد ضحكاتنا تُسمع ولا نظراتنا تلتقي، لم أعد أشكو من أخي ومقالبه، ولم تعد أختي تشكو إزعاجي لها بثرثرتي، كنا مجرد أشباح تلتقي، كان من عادة أبي قبل النوم أن يأتي إلى غرفتي أنا وأختي ليطمئن على قلوبنا، ما فيها من محبة لله ولرسوله وللناس، وتجلس أمي إلى أخي تحكي له ما يحب من الحكايات بعد أن أنهى واجباته.

لم يعد أبي يتفقد قلوبنا، لم نعد نخرج للتنزه أو قضاء حوائجنا، بدأت حواجز تفصلنا كأننا في جزر متناثرة، لا أنكر كنت مشدودة إلى هذا العالم الجديد، لم نستعمله فيما يغضب الله ولم يؤثر على دراستنا بل استفدنا منه، لكن أحسست فجأة أنه يخنقني، أنه حرمني من دفء أسرتي، حاولت أن أسترجعه، لكن دون جدوى، مر أسبوع، ولم ينتبه أحد إلى غيابي عن مائدة الطعام، لأننا أصبحنا مجرد أشباح، أفتقد لمة الأسرة وحرارة المشاعر، كل جارحة فينا كانت تتحدث وتعبر وتصغي للآخر، فكأني بها فقدت الحياة، لا أستطيع العيش بدون هذه المشاعر…”.

ما إن أتممت قراءة ما كتبته سلمى، حتى أسرعت إلى المديرة أطلب لقاء والدَي سلمى، بعد أن أريتها ورقة الامتحان فارغة، نظرت إلي بريبة، كأنها تقول ربما أنت السبب، فسلمى تلميذة نجيبة وأنت من قصرت، وهكذا المعلم، الشمعدان الذي تعلق عليه جميع الأخطاء، فهمت ما يجول في خاطرها، فأسرعت لأطمئنها، وأن الأمر يتعلق بأسرة سلمى.

حضر والدي سلمى وعلامات الحيرة على محياهما، ما الذي اقترفته سلمى وهي المؤدبة والمجتهدة، أريتهما ورقة الامتحان، كانت كالصعقة، وعوض البحث عن السبب، وجه الأب سهام الاتهام للأم وأنها انشغلت بدراستها عن متابعة سلمى وأنها تركتها للهاتف دون رقيب وأن هذا ما كان يخافه… وفسر غيابها عن مائدة الطعام-الذي لم يتنبه إلا الساعة-بأنها أصبحت مدمنة على الهاتف، قاطعته قائلة: “أخبرتني سلمى، أنها لم تستعمل الهاتف منذ أسبوعين، إنها تتمرد على الوضع الجديد، إنها تفتقد الأسرة ولمتها، متى تحدثتم آخر مرة؟” أطرقا رأسيهما، وكأنما أدركا مكمن الداء، فلقد أبعدتهم أجهزتهم عن بعضهم البعض، ثم سلمتهما ما كتبته سلمى، قرآه والأسى يملؤهما، كيف لم ينتبها للأمر وكادا أن يفقدا سلمى. شكراني ووعداني بأن الأشباح ستعود لها أرواحها، وأن القلوب ستُتفقد ولن تبقى هملا يفترسها الفراغ، ولن يسرق منا عالمنا الافتراضي حياتنا الحقيقية بحرارة مشاعرها وصدق أحاسيسها.