بعث الله النبيين على مر العصور للدلالة عليه سبحانه وتعالى وهداية البشر لما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة، فاختص بعضهم بكتب مسطورة، كلام الله تعالى الموجه لعباده، وهم قلة، في حين بعث أكثر الأنبياء بوحي منه سبحانه وتعالى دون كتاب يحمل كلامه المباشر لعباده، فكان الأنبياء هم الواسطة بين السماء والأرض، بين العباد وربهم. وفي هذا دلالة عظيمة على أن الناس مجبولون بالفطرة على اتباع أمثالهم من البشر.
ولأن الأنبياء صناعة ربانية خالصة فقد جعلهم الله أكمل البشر معرفة به عز وجل وعبودية له ومعاملة لخلقه، يقول الله تعالى مخاطبا نبيه موسى عليه الصلاة والسلام في سورة طه الآية 41: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (سورة طه، الآية 41). يشرح اللغويون الصنع بإجادة الفعل، والاصطناع: المبالغة في إصلاح الشيء. يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية «أَيْ اِصْطَفَيْتُك وَاجْتَبَيْتُك رَسُولًا لِنَفْسِي أَيْ كَمَا أُرِيد وَأَشَاء».
إخبار من العلي القدير عن صناعته أنبياءه واختيارهم للرسالة، صناعة بلغ بها أصفياؤه من خلقه درجة الكمال البشري، فكان أسهل على بقية الخلق اتباعهم والتأسي بهم، وفي هذا رحمة جمة بنا عباد الله من لدن آدم إلى خاتم الأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وإذا كان هذا فعل الله تبارك وتعالى مع أنبيائه المبعوثين لأقوامهم خاصة، فكيف يكون الحال مع خاتمهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وقد كلف بتبليغ الرسالة الخالدة إلى العالمين؛ إنسا وجنا؟
تجلت في رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم صفات الله عز وجل وفاق الناس أجمعين في التحلي بها، وفاضت عليه أنوار محبته سبحانه وتعالى وهو الذي قرن اسمه باسم حبيبه فزادته عليه الصلاة والسلام جلالا وجمالا، فحاز بذلك درجة الكمال الإنساني.
وجعل الله تعالى – رحمة منه بنا – هذا المثل الكامل يعيش بين أصحابه رضي الله عنهم أجمعين، فيأخذون عنه أجل الأعمال وأدقها، في جميع مناحي الحياة العامة منها والخاصة. وكان بيته صلى الله عليه وسلم مرتعا لهذا الكمال، فأصبح أعلى وأجل البيوت إطلاقا، فيه يتنزل الوحي وفيه يتحرك حامل الوحي تنزيلا له على أرض الواقع.
روت عنه أزواجه غير يسير من سنته في عبادته وشرف مقامه وكرم خلقه وحسن معاملته، واختصت عليهن السلام برواية الدقائق من معاملة الزوج أزواجه والإحسان إليهن والصبر على غيرتهن وغض الطرف عن هفواتهن واحتواء مشاعرهن والاهتمام البالغ بهن، لا يخفي محبته لهن ولا يجد غضاضة في التعبير عنها على الملإ، كيف لا وقد شهد الله تعالى له وأثنى عليه في قوله عز وجل: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (سورة القلم، الآية 4).
ما أحوجنا، نحن البعيدين عنه أمدا عليه أجمل وأكمل الصلاة والسلام، أن نستغني به وبما وصلنا عنه عما سواه، وقد تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظه حيا وحفظ رسالته من بعده.
ما أحوجنا وقد فعل فينا الجفاء فعله، وأحاطت بنا الدنيا واختلطت علينا المفاهيم والقيم، فما عدنا نحمد الحميد منها أو ننكر المنكر. تعددت الآراء والمشارب وكثرت المرجعيات؛ كل يتغنى بما عنده. وفعل فينا التاريخ فعله، فاختلط عندنا الدين الصحيح بالعادات والأعراف الجارفة التي اتخذها آباؤنا تماشيا مع ضرورات زمانهم فأصبحت ملزمة يصعب الحياد عنها وكأنها دين من الدين، وبالاجتهادات الفقهية التي كانت مظروفة بوقتها والتي حبست عنا ثراء وجمال ومرونة وعدل وإنصاف وإحسان هذا الدين، وغزت بيوتنا وسائل الإعلام الفاسدة المفسدة التي أصابتنا في عقر دارنا، وأصبح حسن المعاشرة الزوجية – كما غيرها – من الأماني التي يصعب نيلها، كل يدفع في اتجاه مصالحه إن لم نقل أهوائه.
حري بنا، أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أن نعود عودا جميلا لسنة معلمنا ومرشدنا وقائدنا وحبيبنا محمد، نتعرف عليها ونمتح منها، نقتفي أثره وننهل من سنته ونعمل بعمله، ننقي ما علق بأنفسها من شوائب الشح وحب الغلبة والأنانية والأثرة والبعد عن الفطرة، سائلين الله أن يفتح لنا أبواب رحمته فنكون خير خلف لسيد الأنام، نقيم بسنته ما اعوج من سلوكنا في بيوتنا، متوكلين على الله سائلينه أن يفتح لنا أبواب رحمته وحسن التوكل عليه، وأن يرزقنا الإخلاص في نية التعبد إلى الله تعالى بحسن الاقتداء بالرحمة المهداة، والتقرب إليه عز وجل بمتابعة سنة نبيه، نتعرض لنفحات النبوة عساها تقيم صلب أسرنا فيخرج منها رجال ونساء وأبناء صالحون، تصلح بهم أمتهم وتسعد.
يقول الله تعالى في كتابه العزيز: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (سورة آل عمران، الآية 31)، اتباع الرسول استمطار لمحبة الله ورضوانه، نحيي سنة نبينا عليه الصلاة والسلام حتى يوافق عملنا عمله فيكون الجزاء وعدا من الله الذي لا يخلف وعده محبة ومغفرة ورحمة توجب سعادة الدارين.
إن خلاص بيوتنا مما تعيشه من وهن قمين بتوبة نقطع بها كل وصال إلا وصال رسول الله صلى الله عليه وسلم، نتبع النموذج الكامل في سياسة أهله، ولطف ورقة معشره لهم وقيامه عليهم وخدمتهم، وكذا معاملة أزواجه وحسن تبعلهن له والحرص على طاعته ورضاه، في جو تسوده الألفة والمودة والرحمة والتفضل والإحسان، حتى إذا عرض عارض مما لا تنفك عنه بشريتنا من غضب أو خطإ تحطم عند صخرة المحبة والحكمة وبقي البيت متماسكا لا تجور عليه عوادي الزمان.
هي إذن سلسلة نحاول أن نطرق فيها بيت رسولنا الكريم، نستمد منه ما يعيننا على القيام بواجب أسرنا كما يحب الله ويرضى، بنية الاقتداء واستمطار الرحمات، نسأله سبحانه وتعالى التوفيق والسداد والصواب والقبول والانتفاع، نستجير بقوته جلت قدرته ونبرأ إلى حوله.