في بيت النبوة (3) | الاجتماع على الله حصن الأسرة الحصين

Cover Image for في بيت النبوة (3) | الاجتماع على الله حصن الأسرة الحصين
نشر بتاريخ

أرخى كمال سيد الخلق والدال على الحق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بظلاله على حياته الزوجية، فكانت خير مثال وقدوة يحتذى بها لبناء أسر قوية متماسكة لا يفت من عضدها تصاريف الدهر التي لا تنفك عن آدمية الإنسان مهما بلغ حظه من الدين، والأكيد أن هذه العلاقة التي لا يوجد لها نظير، والتي وصلتنا منها صور إنسانية بلغت في التعبير عن الحب والود والرحمة والتساكن ما به تقر الأعين والأنفس، ما كان لها أن تصل إلى ما وصلت إليه لو لم تكن مسنودة بأمر عظيم جلل يجعل أقدامها راسخة في الأرض وسنامها شامخة في العلالي، وغير صعب علينا أن نكتشف السر إذا ما أدركنا أننا بصدد الكلام عن حبيب الله وصفيه من خلقه، فلا جرم أن يكون منطلق كل مناحي حياة سيدنا محمد وغايتها الله سبحانه وتعالى، ووسيلتها “كان خلقه القرآن” 1. فلا شك أن ارتباط هذه العلاقة بالعمل على رضا الرب فيها سيكون لها حصنا حصينا وسدا منيعا من أن يصيبها من حظوظ الدنيا ما يضعفها.

لذلك نجد أن من أبرز سمات الهدي النبوي في العلاقة الزوجية تكفله صلى الله عليه وسلم بنفسه بتربية زوجاته رضي الله عنهن وتعليمهن الأحكام الشرعية ودعوتهن للخير وتوجيههن ومصاحبتهن في أداء مجموعة من العبادات، إضافة إلى الاهتمام بتعليم الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين ركائز ومفاتيح السعادة الأسرية والتي كان ضمنها، بل أعلاها، الحث على الاجتماع على الله وإتيان الطاعات.

في حلقتنا هذه سنقف على صور موضحة – على سبيل المثال لا الحصر – لبعض هذه الأسس، والحث على تعدي المشاركة في أمور الدنيا إلى التعاون على البناء للآخرة، انصياعا لقول الله عز وجل يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ 2، قال قتادة رحمه الله تعالى في معنى الآية “تأمرهم بطاعة الله وتنهاهم عن معصية الله وأن تقوم عليهم بأمر الله وتأمرهم به وتساعدهم عليه فإذا رأيت لله معصية قذعتهم عنها وزجرتهم عنها”. وفي نفس المعنى قال الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: “إذا أنس الرجل الزوج أن المرأة الزوج ركن شديد يعتمد عليه، واطمأنت هي إلى أن رفيق الرحلة ثقة وحضن أمان فقد تأسست اللبنة الأم في البناء الاجتماعي. أهم من بناء المجتمع بناء معاد المرأة ومعاد الرجل في الآخرة 3. يذكّر هنا العارف بالله عبد السلام ياسين بأن هدف الزواج الإسلامي ليس فقط حسن اجتماع على أمور الدنيا، على ما لها من أهمية، ولكن الهدف الأسمى هو بناء معاد الزوجين في الآخرة، ولعل أبهى صور هذا البناء أن يأخذ الزوج بيد زوجه متعاونين متآزرين في سيرهم إلى الله تعالى بناءً لهذا المعاد، هذا البناء الذي يقوم عليه مدار الخلق كله.

إياك ومحقرات الذنوب

عند النسائي وابن ماجه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: “يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالباً” 4.

خطاب مباشر من زوج معلم يحرص أن ترد زوجه على الله سبحانه وتعالى نقية من الذنوب كلها، بما فيها المحقرات، وهي ما قد لا يبالي المرء به من الذنوب. قال المناوي في شرحه الحديث: يعني أن الصغائر إذا اجتمعت ولم تكفر أهلكت، ولم يذكر الكبائر لندرة وقوعها من الصدر الأول وشدة تحرزهم عنها، فأنذرهم مما قد لا يكترثون به.

تهمم بآخرة الزوجة جعل الزوج الكريم ينبهها مسبقا إلى تلك الأمور التي قد تظنها صغيرة ولا تلقي إليها بالا ليوقد فيها ملكة الانتباه لكل الأعمال، دقها وجلها، ولنا – معشر النساء – أن نستشعر إحساس الزوجة مع هذا الحرص الكبير الذي تجاوز الدنيا للآخرة، أو الذي يبدأ بالحرص على الآخرة فيمر على حظ الدنيا فينظمه. فالخير سواء من أي جهة أتيناه.

كل ذلك كان يفعل

صورة أخرى من صور تعليم نبينا زوجاته أمور العبادة وما يرتبط بها من أحكام، تتجسد في حرصه صلى الله عليه وسلم أن يقوم ببعض العبادات في حضور زوجاته من غسل وصلاة وغيرها، وكان بإمكانه أن يستتر لو أراد، ولكن فعله صلى الله عليه وسلم ينم عن إرادة مسبقة في تعليم زوجاته شؤون العبادات عمليا، ولعل هذا كان سببا في أن جزءا كبيرا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وردتنا من داخل بيته الكريم.

عن عبد الله بن أبي قيس قال: سألت عائشة عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كان يوتر من أول الليل أو من آخره؟ فقالت: كل ذلك قد كان يصنع، ربما أوتر من أول الليل وربما أوتر من آخره، فقلت: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة. فقلت: كيف كانت قراءته أكان يسر بالقراءة أم يجهر؟ قالت: كل ذلك قد كان يفعل، قد كان ربما أسر وربما جهر، قال: فقلت الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة. قلت فكيف كان يصنع في الجنابة أكان يغتسل قبل أن ينام أو ينام قبل أن يغتسل؟ قالت: كل ذلك قد كان يفعل، فربما اغتسل فنام وربما توضأ فنام، قلت الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة” 5.

إذا هَوِيت الشيء تابعها عليه

ثبت عن أمنا عائشة رضي الله تعالى عنها أنها لما خرجت في حجة الوداع عركت 6 فلم تطف بالبيت، حتى إذا جاء يوم التروية دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجدها تبكي فواساها وأمرها أن تغتسل وتهل بالحج ففعلت، وكانت قد طهرت غير أنها لم تأت بالعمرة فحز ذلك في نفسها، كما يروي لنا حديث طويل نأخذ منه ما يهمنا في بيان ما نحن بصدده “.. ووقفت المواقف، حتى إذا طهرت طافت بالكعبة والصفا والمروة، ثم قال: قد حللت من حجك وعمرتك جميعا، فقالت: يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت، قال فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم” 7.

موقف يستطيع أن يستلهم منه القارئ ما شاء من دروس تعليم الدين واللين والرفق والحرص على رضا الزوجة والصبر على ذلك كله، لم يتوانى الزوج/الرسول الكريم عن القيام بحاجيات أهله وجبر خاطرها حتى وهو في قمة الانشغال بأمور الأمة، حجت رضي الله عنها وكان يكفيها، لكن حِرص سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام أن لا ترجع أمنا عائشة وفي نفسها شيء جعله يجاريها في كل ما تحب ويعينها على أداء الفرائض طاعة لله تعالى، فيوكل الأمر إلى أخيها عبد الرحمان رضي الله عنه ليصحبها للتنعيم كي تأتي بالعمرة.

وما أجمل ما وصف به الصحابي الجليل سيدنا جابر بن عبد الله النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور وهو ينعت خُلق سيد المرسلين مع أمنا عائشة حين قال: “وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا سهلا إذا هويت الشيء تابعها عليه”.

صفحات عطرة في ساحات الجهاد

لم يكتف سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإشراك زوجاته وتعليمهن أمور دينهن في أوقات الرخاء فقط بل كان صلى الله عليه وسلم يشركهن في جميع أمره، فكان عليه الصلاة والسلام يُقرع 8 بين زوجاته ويصحب من اختارها الله معه في غزواته ضد المشركين.

لم يحرمهن فضل الجهاد في سبيل الله، وهو ذروة سنام الدين، بما يلائم قدراتهن وطاقتهن، يداوين الجرحى ويسقينهم الماء ونحو ذلك من الإعانة.

ولقد جعلت توجيهات رسول الله صلى الله عليه وسلم الدائمة زوجاته يزددن علما وفقها وحكمة وحنكة وطاعة لله جل وعلا وتسابقا لمرضاة الله ورسوله، وجعلت رباط الأسرة يزداد صلابة وقوة كلما زادت صحبتهن له عليه أفضل وأجمل وأزكى الصلاة والسلام وكلما تعددت مواطن التعرف على جوانب جديدة من شخصه الكريم.

تعاون على أداء العبادة

كان صلى الله عليه وسلم يعدد طرق التعليم، لعلمه بالنفس البشرية وضجرها من الوسيلة الواحدة، فكان تارة يخاطب المتعلم خطابا مباشرا، وقد يقدم لهذا الخطاب بما يشد انتباه الناس إليه، وتارة كان يكتفي بالفعل في حضرتهم، وتارة يضرب لهم الأمثال، وأخرى يروي لهم قصص من قبلهم وخبر من بعدهم، وأخرى يدعو لمن أتى بوجه من أوجه البر والخير بالرحمة.. وهكذا.

وها هو صلى الله عليه وسلم، كما كان يأخذ بيد زوجاته تعليما وتفقيها واجتماعا على عبادة الله عز وجل، يدل أصحابه، ومن ورائهم كل المسلمين، على هذا الباب ذو الخير العظيم والنفع العميم، يصوره في مشهد جميل يسر الخاطر ويفتح النفس لإتيانه:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “رَحِمَ اللَّهُ رَجُلا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ، فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ، رَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ وَصَلَّتْ وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا، فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ” 9. وفي رواية: “إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ فَلْيُوقِظْ أَهْلَهُ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَيْقِظْ فَلْيَنْضَحْ عَلَى وَجْهِهَا الْمَاءَ”. وفي أخرى: “مَنِ اسْتَيْقَظَ وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ جَمِيعًا كُتِبَا مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ”.

مشاركة في فعل الخير مشاركة في أجره

صورة أخرى من صور حفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكانة الزوجة في بيتها، ومنحها مساحة كبيرة للتصرف فيه بما يرضي الله عز وجل، وبما يعزز سير الزوجين في سلوكهما إلى الله سبحانه وتعالى، ما روت السيدة عائشة رضي الله عنها عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب وللخازن مثل ذلك، لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئاً” 10.

توجيه نبوي عظيم، وبيان لأمد الشراكة بين المرأة وزوجها – ومن يعينهما – في فعل الخير، نسبة للبيت لصاحبته فيرتفع إحساسها من مجرد الخادمة الحاضنة إلى استشعار جسامة المسؤولية الملقاة عليها في بيت نسب إليها، فهي مسؤولة عن إقامته كما الزوج مسؤول، وإطلاق ليد الزوجة تنفق في مال زوجها في حدود المصلحة، فيعمها الفضل ويعم زوجها وأهل البيت جميعا بمن فيهم الخازن 11.

هي صور، وغيرها كثير لا يتسع مقام مقال لعدها واستخلاص العبر منها، لكن حسبنا منها أن ننبه الإحساس ونوقظ الهمم لنغرف من معين الرحمة والحب، من مصدرهما الحقيقي؛ بيوت النبي صلى الله عليه وسلم نرتجي حسن التعلم وجميل التأسي والاتباع.

فلله درّكَ سيدي يا رسول الله من زوج، ولله دركن سيداتنا أمهات المسلمين من زوجات، ولله در دين الرحمة الإسلام الذي أوحى وأمر ونظم وربى. فاللهم لك الحمد على نعمة الإسلام.


[1] روى الإمام مسلم عن سعد بن هشام أنه دخل مع حكيم بن حزام على أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها، وقال أنبئيني عن خلق رسول الله، فقالت: ألست تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قالت: “فإن خلق نبي الله كان القرآن”، وفي رواية قالت “كان خلقه القرآن” أما تقرأ  “وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ” القلم: 4.
[2] سورة التحريم الآية 6.
[3] الأستاذ عبد السلام ياسين، كتاب تنوير المومنات، الطبعة الأولى، ج 1، ص 167.
[4] صححه ابن حبان.
[5] أخرجه مسلم وأبو داود، وقال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.
[6] أي حاضت.
[7] صحيح مسلم، كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج والعمرة والقران، حديث 1213.
[8] أقْرَعَ بيْنَ القَوْمِ: ضَرَبَ القُرْعَةَ (معجم المعاني الجامع).
[9] كما في أبي داوود والنسائي وابن ماجه..
[10] صحيح البخاري، كتاب الزكاة بمن أمر الخادم بالصدقة ولم يناول بنفسه، حديث 1425.
[11] الخازن: متعهّد أو مسؤول الخَزْن، الذي يتولّى حفظَ المال وغيره وإنفاقه (معجم المعاني الجامع).