بصدور وثيقة الأمانة العامة للدائرة السياسية، يتجدد موقف جماعة العدل والإحسان الداعي إلى مقاطعة الموعد الانتخابي للسابع من أكتوبر تسجيلا وتصويتا. ويتجدد معه النقاش العمومي المسائل لجدوى المقاطعة والأمد الذي يفترض أن تقف عنده، ثم لمدى عمق الأثر الذي تساهم به في صياغة مشهد سياسي مغاير. يحصل هذا في مناخ يحمل كثيرا من مؤشرات الفرادة في تاريخ المغرب المعاصر؛ فقد استطاعت مؤسسة المخزن- وهي تتعاطى مع مناخ التحولات الاقليمية- أن تدير مشهدا سياسيا مصطنعا، تتعايش فيه جل المواقف والتعبيرات السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، مؤمنة بخيار المشاركة وفاعلة فيه. خارج هذا القبيل وعلى مسافة منه ليست بالقصيرة تقف الجماعة موقف الرفض المتجدد.
سبقت هذه الوثيقة مواقف وبيانات عدة للجماعة في تقدير الموقف من نظام الحكم وتوصيف بنيته وطرق اشتغاله، بما في ذلك الموقف من المواعد الانتخابية والمشاركة فيها. وبالعودة السريعة إلى سجل البيانات السابقة نجد الجماعة واضحة في رفضها المسبق لمؤسسة المخزن جهازا للحكم، من جهة افتقاده شرط المشروعية ومن جهة تمركزه على شخص الملك ومحيطه الاستشاري ومن جهة توظيفه لأذرعه الاستبدادية النافذة ودوائر الريع الآخذة في الاتساع. وفي هذا السياق تؤكد الأوراق السياسية للجماعة أن تدبير السياسات العمومية لا يزال شأنا محفوظا للملك ومحيطه خارج دائرة التباري السياسي للأحزاب وبرامجها، وأن الدور المنوط بالمؤسسات المنتخبة في ظل سيادة المخزن ينحصر في مجرد المساهمة المحدودة في التسيير (لا التدبير)؛ تسيير أعمال مفوضة بتوجيهات المحيط الملكي والإشراف المباشر لسلطات الوصاية.
هذه هي الحيثيات التي تؤكد الجماعة في كل مناسبة على ضرورة استحضارها ثم الصدور عنها في تقييم السلوك السياسي للنظام وشركائه. وفي حال تغييبها وعدم الوعي بخطورتها وطابعها الاستبدادي قد لا يرى بعض المتتبعين في موقف المقاطعة سوى جمود استراتيجي وعجز عن اقتراح البدائل وجنوح عن شرط الواقعية في التعاطي مع الرهان الانتخابي في وقت قامت فيه أغلب فعاليات النخبة السياسية بمراجعات نقدية لمواقف الرفض، حتى صارت اليوم جزءا من المشهد الانتخابي. في هذا السياق تحديدا جاءت (الوثيقة) لا لتلتمس العذر بتجدد موقفها بالمقاطعة، بل لتحاكم السلوك السياسي في عمومه، ولتطرح في وجه المتتبعين تساؤلا تعتبره الجماعة أعمق وأسبق رجحانا، حيث يتصدى هذا التساؤل لبنية النظام السياسي المخزني وطراز اشتغاله؛ فما الذي تغير في حيثيات المناخ السياسي حتى يستلزم من الجماعة تحيين الموقف منه؟ وما الذي استجد في قواعد التدبير السياسي؟ هل تخلى المخزن عن نَفَسه الاستبدادي في ادارة الشأن العام؟ هل استجاب في حدود معتبرة لمذكرات الإصلاح التي رفعتها بعض أهم مكونات النخبة السياسية؟
إن الوثيقة الأخيرة، وهي ترمي بهذه الأسئلة الملحة في حلبة تقويم أداء النخب على تنوعها، لَتسائلُ أيضا جانبا من فعاليات الحراك الشعبي التي اصطفت إلى جانب الجماعة في موقف الرفض لدستور 2011 ومضامينه غير الديمقراطية، فيما هي الآن منخرطة في المشاركة الانتخابية التي تعد من محطات ذات المسار الدستوري محل الرفض!
في هذا المستوى من التقويم وما يطرحه من إشكالات وأسئلة مربكة – وفي ظل استمرار النخبة السياسية في تبني موقعَيْ الشريك والضحية وخطابي التأييد والتشكي في ذات الآن – لا تفوت الوثيقة المناسبة لتؤكد على صوابية موقفها بالمقاطعة وتحميل النخب ذاتها، قبل مؤسسة الحكم، المسؤولية التاريخية في إطالة عمر الاستبداد وتزكية مشروعيته). كما لم تَخْلُصْ الوثيقة إلى تجدد موقفها الرافض للمشاركة إلا تأسيسا على قائمة من الاعتبارات التقنية والسياسية التي تنزع عن هذه الخطوة أي احتمال للوقوع ضحية تقدير جامد أو عدمي للموقف. وهي اعتبارات موجهة أساسا لمن اعتاد من النخب النظر إلى مواقف الجماعة الحادة والصارمة، في أكثر من مناسبة، بمنظار “الإجماع الوطني” الذي على أساسه لا يتردد الكثيرون في نزع “شرف الوطنية” عن الجماعة وأعضائها.
ذهبت الوثيقة عميقا في التأكيد على ذاك الحق الأصيل الذي غالبا ما تحاول مؤسسة المخزن استبعاده عن دائرة النقاش العمومي؛ وهو حق المغاربة جميعا – قبل أي حديث عن انتخاب المؤسسات – في مناخ ديمقراطي سليم وغير متحكم فيه، تساهم فيه أحزاب حقيقة تتمتع بكامل استقلالها وتتوافق على الإطار الدستوري الذي تفرزه الإرادة الشعبية الحرة. آنذاك، وآنذاك فقط، نستطيع الحديث عن حق المشاركة الانتخابية الحقيقية والفاعلة. وفي المسافة الزمنية الفاصلة بين الحقين، لا ترى الجماعة وجاهة إلا في موقف المقاطعة، ليس لأنه اجتهاد لطرف سياسي مقترح بل لأنه خيار السواد الأعظم من المغاربة. ومن المحتم في محطات مفصلية كهذه الاصطفاف مع الأغلبية.
ثم ان الوثيقة، في تقييمها للأداء الحكومي، لتذكر في غير ما مناسبة بمعطى بارز يعزز صوابية المقاطعة وكذا صورية المؤسسات القائمة. ويتمثل هذا المعطى في تهافت الحكومة المنتخبة في ظل اعتلال المناخ الديمقراطي وافتقارها لامتياز القرار الناجز والمستقل) وكذا ارتهانها في كثير من الأحوال للإرادة السامية للمحيط الملكي أو لطرف ثالث يحترف “التحكم” وبالقدر الذي تتعذر به هذه الحكومة ودوائرها بمناخ التحكم هذا، نجدها تلتمس العذر لعجزها بإكراه الإطار الدستوري والقانوني الذي يفرض حيثيات تقييدية على طول مسار التنافس الانتخابي والتي لا تسمح بتناجز انتخابي سليم! ويكفي في هذا الصدد أن نستحضر مؤاخذات كثير من الأحزاب الهامة على ترتيبات التقطيع الانتخابي وتدقيق اللوائح ونمط الاقتراع وإشراف وزارة الداخلية وعدم احترام كثير من ضوابط السلوك الانتخابي، وغيرها كثير من المؤاخذات.
ارتباطا بهذه المؤاخذات وتأكيدا على جوهريتها في تقييم المناخ السياسي عموما، تذكر الوثيقة أن موعد السابع من أكتوبر سيجري الإعداد له بذات الشروط السابقة التي هي محل مؤاخذة، والتي سبق أن أفرزت لنا مؤسسات ضعيفة وحكومات أضعف وتعايشت مع كثير من مظاهر الفساد والاستبداد. وهنا تطرح الوثيقة السؤال الجوهري: هل سنكرر التجربة ذاتها بعمقها وإطارها التحكمي؟ هل سنتجه جميعا نحو ترسيم الهدر والعبث السياسيين بتكرار مناخات سبق أن عايشنا فشلها؟ هل سنستمر في دفع الكلفة الفلكية لفواتنا التنموي والديمقراطي؟
هكذا، استطاعت الوثيقة أن تبني موقفها بمقاطعة الانتخابات والدعوة إلى ذلك، حتى لا يحسب عليها ضلوع في تزكية الاستبداد وشرعنة مؤسساته، وحتى تظل الجماعة منسجمة مع مبادئها الرافضة للاستبداد والداعية لاستحداث مناخ سياسي سليم على نحو توافقي قاعدته الوطن.