كل المؤشرات تشي بأن العامل الموجه لقرارات الحكومات المتعاقبة في المجال الصحي هو إنهاك المنظومة الصحية العمومية كما أنهكت المنظومة التعليمية العمومية من قبل، وفتح المجال واسعا للرأسمال الداخلي والأجنبي للاستثمار في القطاعين الأساسيين المفترض أن يكونا اجتماعيين واستراتيجيين، والتعامل معهما بمنطق ربحي صرف. والمآل واضح في ظل التوجه النيوليرالي المنتهج، وهو تسليع الصحة والتعليم. وسبق أن صرح وزير ذات يوم تحت قبة البرلمان: “لباغي يقري ولادو ايدير يدو في جيبو”. هذا التوجه ينتج إقصاء اجتماعيا في حق المستضعفين والفقراء لا محالة. ولا ينقص من هذه الحقيقة الخشنة شعارات النموذج التنموي الجديد كتعميم التغطية الصحية والحماية الاجتماعية التي تشكو اختلالات بنيوية، وإصلاح المنظومة الصحية والتعليمية… ذلك أن المتتبع للشأن الاجتماعي في المغرب، يلاحظ إنما هي شعارات وبرامج للاستهلاك يصدق عليها مقولة “جعجعة ولا طحين!!”. والحقيقة الصلبة المرة يكشفها الواقع البئيس للمدرسة العمومية والمستشفى العمومي والإدارة العمومية قبل أن تكشفها التقارير الرسمية المحلية كما التقارير الدولية.
سياق هذا الكلام، قمع مسيرة وطنية جسدها آلاف الأطر الصحية منذ أيام في الرباط، ودخولهم في مسلسل نضالي تصعيدي يشل المرفق الصحي بشكل غير مسبوق احتجاجا على إصرار الحكومة على تنزيل قرارتها “الإصلاحية” دون إشراك حقيقي للشغيلة الصحية، لاسيما تنزيل ما يسمى ب gst ومقتضياته. الأمر ذاته ينطبق على التكوين الصحي؛ حيث مقاطعة طلبة الطب في شهرها السابع في ظل لا مبالاة حكومية، في حين تشتغل المؤسسات الخاصة بإيقاع عادي. وقبلها معركة التعليم التي عانت المدرسة العمومية من إضراباتها أربعة أشهر، وما زال الاحتقان مستمرا مع استمرار توقيف ستة أساتذة مناضلين عقابا وانتقاما، والأمر ذاته قله عن الجماعات الترابية والمهندسين وموظفي المالية وموظفي التعليم العالي، ومستخدمي المكتب الوطني للماء والكهرباء …
لا ينكر عاقل دور الاستثمار في أي نهضة تنموية مطلوبة، ولكن ينبغي حماية حق المواطنين في الاستفادة من خدمات عادلة وجيدة في القطاع العام، الذي يمول من أموال المواطنين دافعي الضرائب. لاسيما في بلد يتميز بارتفاع معدلات الفقر والتضخم، وارتفاع تكلفة الإنتاج لتبعية الاقتصاد، وانخفاض معدلات النمو، وتدني خدمات التعليم والصحة والسكن بشهادة التقارير الدولية التي تضعنا في أسفل الترتيب الدولي… من جهة أخرى، تتوجه الحكومة رأسا لفرض “إصلاح” جديد لصناديق التقاعد بعد الإصلاح المقياسي سنة 2016، بذات الثالوث المرفوض “اعمل أكثر وساهم أكثر واستفد أقل”، ومعه وُضِعَ على الطاولة مشروع القانون التكبيلي للإضراب من أجل مزيد من الضبط والتحكم في المشهد الاجتماعي والنقابي.
هذا السرد التشخيصي، قد لا يكون موضع خلاف، فموقع التباين هو الجواب على سؤال: “ما العمل؟!”
فمنطق الأشياء يقول بضرورة تداعي القوى المناضلة في البلد من مختلف التوجهات الإيديولوجية والسياسية لتشكيل حركة اجتماعية موحدة وقوية، تكون قادرة على فرض موازين قوى لصالح الطبقة العاملة والطبقات المسحوقة للدفاع عن حقوقها وفرض إرادتها، وجمع صفها لأن الحق ينتزع ولا يمنح. والانتزاع يطلب قوة موحدة. للأسف، تشكيل الحركة الاجتماعية الموحدة في بلدي حلم لم يكتب له التحقق، بسبب فيتو ورفض يرفعه طرف سياسي متشبث بأن أي حركية اجتماعية لا يمكنها إلا أن تكون يسارية، وهو القرار الذي يستبعد جماعة العدل والإحسان، فيفوت على هذه الحركية زخما وإسهاما معتبرا في تعبئة الناس وتأطيرهم، وقيادة نضالاتهم. ونأسف على ضياع الفرص، لاسيما وأن الإرادة موجودة من أكثر من طرف، وتجارب التنسيق في جبهة مناهضة التطبيع نجحت. في حين تتفق مختلف التقييمات لتجربة “الجبهة الاجتماعية” على ضرورة تقويتها بعد غيابها عن معركة التعليم، وتغيب اليوم في معركة توزيع الماء الصالح للشرب والكهرباء، وعن معركة الصحة العمومية، وعن ملف التكوين الصحي في كليات الطب… واليوم يتم تأسيس جبهة أخرى خاصة بالتقاعد والإضراب …
شعلة الأمل هي تجربة جبهة مناهضة التطبيع، والاحتجاجات القطاعية الموحدة بين الإطارات النقابية أو التنسيقيات القطاعية، التي تخوضها الشغيلة، بعدما أدركت أن قطار النضال لا يمكن أن تقوده نقابة واحدة مهما كانت قوية، في أفق أن تدرك أن معاركها الجزئية لا يمكن حلها بشكل كامل إلا في إطار حركة اجتماعية أكبر لأن القرار الرسمي ذو بعد سياسي واستراتيجي، فتسهم من جهتها لإنضاج شروط تأسيس حراك اجتماعي قادر على القيام بأدوارها النضالية حتى لا تبقى أدوات ضبط للمشهد الاجتماعي يتحكم فيه من يملك القرار للتنفيس والمناورة عندما يقتضي الأمر ليس إلا.
اليد ممدودة لتأسيس هذه الحركة الاجتماعية الموحدة وتطويرها بمنطق تشاركي، وما يجمع أقوى وأكبر مما يمكن أن يفرق.