في هذا الحوار الذي تجريه بوابة العدل والإحسان مع الكاتب والأديب الأستاذ عبد الهادي المهادي، سفر ماتع مع حياة الكاتب الإبداعية ومسيرته في مضمار الأدب والفكر والفلسفة والشأن العام. كما في الحوار عروج على القضايا الآنية الملتهبة وتحليل لمجرياتها واستشراف للمستقبل ومساراته.
الحوار الذي يأتي ضمن سلسلة من الحوارات مع كتاب ومبدعين وباحثين، يقدم مادة دسمة تستحق قراءتها والنظر فيها. فإلى نص الحوار:
الأستاذ المهادي؛ كاتب متعدد الاهتمامات أدبا وفكرا. كيف تجمع بين كل تلك المجالات التي تبرز في كتاباتك؟
التّنوّع الذي تقصدُه صاحبَني منذ بداية اهتمامي بالكتاب. صحيح أنّ التّدشين كان أدبيا يوم كنتُ تلميذا في آخر الابتدائي وبداية الإعدادي؛ إذ بدأتُ ـ شأن غالبية جيلي ـ بـسلسة “المغامرون الخمسة” و”الرجل المستحيل”، وغيرهما، ثم انعطفت إلى كلّ أعمال النّجيبين: الكيلاني ومحفوظ، ثمّ انفتحتْ عوالم الأدب العالمي أمامي، وما زلتُ غارقا في متعته إلى اليوم، خاصة الأدب الرّوسي، وكذا أدب الشعوب القريبة من الرّوس، وأذكر هنا للتمثيل فقط: “بلدي” للدّاغستاني الأديب الشاعر الإنساني الأنيق رسول حمزاتوف، و”أرى الشمس” للجورجي نوداردومبادزه، وأعمال كثيرة للقرقيزي الفنّان جينكيز ايتماتوف، مثل: “جميلة” و”السفينة” و”شجيرتي على منديل أحمر” و”عين الجمل” و”وجها لوجه” و”المعلم الأوّل”. صاحبتُ مقروءاتي للأدب مطالعة منتظمة لشؤون النّقد: النظري منه والتّطبيقي خاصة في المجلات المتخصّصة. ويوم دخلتُ على عبد الفتّاح كيليطو بدا الكثير من تلك المقروءات النقدية، مقارنة به، متواضعا إلى حدّ بعيد.
في آخر الثانوي أنشأتُ مجموعة قصصية تحت عنوان “يوميات تلميذ فاشل”، في خمس وسبعين صفحة، ضمّت ثمان قصص، بعد إهداء ومقدّمة. كما جمعت في دفتر محاولات شعرية بعنوان “مآسي”، للأسف ضاع منّي ذلك الكُنّاش، بينما أعود للمجموعة القصصية بين الفينة والأخرى بفرح كبير، لأنّني أقرأ فيها تطوّري الأدبي والنّقدي.
والشِّعر؛ كيف هي علاقتك به؟
علاقتي بالشعر، مقارنة بالرواية، ضعيفة. أقرأه وأتذوّقه، وشغفي الشعري مُتعلّق أساسا بالسماع وليس بالقراءة. وإذا سألتني عن شعرائي المفضّلين فهم كثر، ولكنّني أذكر منهم هنا أبا القاسم الشّابي وإليا أبا ماضي والمتنبي. ومن المعاصرين نزار قبّاني، وهو سيّد الصورة الفنّية بدون منازع، يرسمها بمعجم بسيط يفهمه الجميع ابتداء من التلميذ النّبيه، بينما المتخصّص يتيه بها شغفا. كما أنّ الشاعر السوري أنيس الدّغيم يستهوي ذائقتي الأدبية، خاصة فيما يتعلّق بالمديح النّبوي؛ فهو فيه أستاذ وسيّد. وهناك شاعر طنجاوي صديق اسمه فيصل أمين البقالي؛ استمعتُ بصوته للكثير من قصائده ونحن جلوس في الغابة أو أمام البحر، للأسف هو شديد التواضع، ويرفض لحدّ الآن أن يخرج على النّاس ببعض ما يطرّزه من كلام جميل. وهذا من جملة التواضع المضرّ.
آخر شاعر تعرّفتُ عليه وأحببته؛ امرأة، إنّها العراقية لميعة عبّاس عمارة. تأخّرتُ في الاستماع إليها؛ إنها شاعرة حقيقية. إلقاؤها الشعري باذخ.
كيف تعرّفتَ على هؤلاء الأدباء والشعراء؟
كلّ الأسماء التي ذكرتها أعلاه دلّني عليها أحدهم؛ أستاذ، صديق، مقال نقدي… باستثناء أيتماتوف، فقد اكتشفته بنفسي، وأنا شديد الولع به. له بعض الأعمال الأدبية الأيديولوجية الأقل أدبية، لا يلتفتُ إليها، فقد كان عضوا في هيئات عليا في الحزب الشيوعي الروسي، وقدّ عبّر فيها عن الإيديولوجية المادية.
هل من مجالات أخرى غير الأدب تحظى باهتمامك؟
وأنا تلميذ شُغفتُ أيضا بكتب التراجم والمناقب والسير، خاصة ذات الطّابع الصوفي، والمدخلُ كان كتاب “المطرب بمشاهير أولياء المغرب” لبلديّي العلامة المحدّث سيدي عبد الله التليدي. ثم أصبتُ بهوس اقتناء هذه المتون وامتلاكها؛ ففي مكتبي اليوم الكثير منها، ومن أمتعها ـ على سبيل الاستئناس فقط ـ “أنس الفقير وعزّ الحقير” لابن قنفد، و”التّشوف إلى رجال التصوّف” لابن الزّيات، و”الترياق المداوي في أخبار سيدي علي السوسي الدّرقاوي” لمحمد المختار السوسي، و”دوحة الناشر” لابن عسكر، و”الدّرر المرصّعة بأخبار أعيان درعة” لمحمد المكي بن موسى الناصري. وأنا أقدّر كثيرا الزاوية الناصرية ورجالاتها، بالإضافة إلى “الدّلائيين”، فسلوكهم التربوي والعلمي والسياسي مشرّف إلى حدّ بعيد، ولو عشتُ في زمن سيادتهما لكنتُ “مريدا” لإحداهما.
في نفس الوقت سأنفتح على شؤون الفكر ـ ودائما بسبب أستاذ أو صديق أثق في ذوقه ـ وسأبدأ بأصحاب المشرب الإسلامي، فقرأتُ لسيد قطب والمودودي ومنير شفيق وعبد السلام ياسين وزيد بن علي الوزير وحسن البنا وغيرهم كثير. وكان ياسين وسيد ـ رحم الله الجميع ـ الأكثر تأثيرا في فكري وشخصيتي.
هلا فصّلت لنا قليلا في قصّتك مع الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى؟
كنتُ سأقف عنده ـ رحمة الله عليه ـ ولو لم تطرح السؤال؛ لأنّ عبد السلام ياسين أستاذيَ الأوّل ومرجعي وحُجّتي، كما أنّه ـ بلُغة أهل التّربية ـ “شيخي”، وإن كان ـ رحمه الله ـ لا يُحبّ هذه الكلمة في السياق التربوي، لأنّها تُحيل مباشرة إلى السياق الصوفي بكلّ حمولاته التي كثيرا ما يُساء فهمه دون تفصيل أو تدقيق.
تعرّفت على أستاذي منذ نهاية مرحلة الطفولة، وكان يومها تحت “الإقامة الجبرية، في بيته، والتي دامت عشر سنوات؛ بعض تلامذته مَدّوني بتسجيلاته، سلسلتين اثنتين منها: “دروس في المنهاج النبوي” و”أحاديث العدل والإحسان”، كنتُ أستمع إليها أو أشاهدها في سرّيّة تامّة، لأنّ الظروف ـ يومها ـ كانت تفرض ذلك.
وأوّل ما قرأت له كتاب “نظرات في الفقه والتاريخ”، أعجبتُ به كثيرا، رغم أنّني لم أفهم منه سوى القليل، وحفظتُ بعض جمله وفقراته. أمّا الشّق المخصص للفقه فقد حاولت الاقتراب منه ولكنّني تخلّيت عن المحاولة لأنّه موجّه للمتخصّصين في علم لم أكن أعرف منه حينها سوى اسمه؛ أقصد أصول الفقه.
شاهدتُ أستاذي أوّل مرّة عام 1995م، يوم غادر بيته لبعض الوقت لأداء صلاة الجمعة في المسجد القريب من بيته في سلا، وسيعود لإقامته الجبرية في قصة طويلة مشهورة بـ”رُفع الحصار، لم يرفع الحصار”. يومها جلستُ أبحلق فيه دون أن أهتمّ كثيرا بما كان يقوله لنا في كلمته بعد الصلاة، ولكنّني استمعت لتسجيلها بعد عودتي إلى مدينتي.
اطّلعتُ على كلّ كتبه، وكلّ مقالاته التي سبق أن نشرها في مجلّة “الجماعة”، بل لقد أعدتُ قراءتها مرات عديدة خاصة موسوعته التربوية الموسومة بـ”الإحسان” بجزأيه.
لقد علّمني كيف أفكّر، ومدّني بالكثير من آليات التفكير، ورؤيتي تتّكئ على “مفاهيمه” وتستمدّ من أصالته، دون أن أمنع نفسي من الاشتباك معه في الكثير من طروحاته. حسرتي كبيرة جدا، لأنّه توفّي ـ رحمه الله ـ قبل أن يقرأ لي، فقد بدأتُ الكتابة متأخّرا، وأنا على يقين أنه كان سيفرح بتلميذه، فقد حضرتُ مشاهدة قام خلالها باحتفاء كبير بأقلام ظهرت في جماعته.
هذا من جهة الفكر، أما تربويا فالأمر مختلف؛ أنا تلميذ “مُريدٌ” بين يدي “شيخه”؛ قد أكون مفرّطا في بعض ما كان يلحّ به علينا، ولكنّ “اعتقادي” في “إمامته” التربوية صارم. كان يقودنا بـ”السلاسل” نحو “تجريب” الأوراد التربوية، من قرآن كريم (قراءة واستماعا وحفظا وتأملا) وذِكر ودعاء وقيام… ولا تزال كتاباته وتسجيلاته تفعل ذلك. وكان يرجو أن يتذوّق عدد وافر من تلامذته ما سبق وأن تذوّقه هو من معاني الإحساني، أرجو أن أكون من ضمنهم، وأن يكون الوفاء له ولمدرسته مما أختم به مروري الدّنيوي.
جزء من قصّتي مع أستاذي رويتها في مقالين نشرتهما عندكم؛ وهما: “أحد عشر عاما من الـفَـقْـدِ والتَّـصَـبُّـر.. في الحنين إلى الأستاذ ياسين“، و”شرفُ التَّلمذَة.. رسالة إلى الأستاذ عبد السلام ياسين“.
لنعد للحديث عن الأسماء الأخرى التي أثرت في تكوينك؟
في نهاية الثانوي سأكتشف محمد عابد الجابري وبرهان غليون؛ قرأتُ للأوّل كتابه “وجهة نظر؛ نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر”، وقد خضّني أسلوبه وطريقة عرضه لأفكاره، ثمّ تابعتُ سلسلة من مقالات كان ينشرها في جريدة “الاتحاد الاشتراكي” طيلة شهر رمضان، وهي التي سيجمعها فيما بعد في كتابه “المثقفون في الحضارة العربية؛ محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد”، بعد سنوات طويلة سيتّهمه فهمي جدعان صاحب الكتاب المرجعي الموسوم بـ”المحنة؛ بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام” بأنّه سطا على النصوص التي استعملها في كتابه ذاك. لم يكن الجابري يردّ على منتقديه، خاصّة إذا كانوا مشارقة!
في بداية الجامعة سأجد “تجديد المنهج في تقويم التراث” لطه عبد الرحمن قبالتي، وكان نقلة حقيقية في تكويني. قرأتُ أيضا كتب التّشيع، وكانت مدينتي يومها تعرف مدّا تعاطفيا كبيرا مع الفكر الشيعي، فانشغلت لمدّة قصيرة بالأمر، خاصة كتب التيجاني السّماوي.
من طرائفي؛ أنّني في عزّ الاستعداد للامتحانات الجامعية كنتُ أهرب إلى كتب الفكر والفلسفة والاجتماع والتاريخ والأدب والنّقد؛ كانت المقابلة واضحة بين مطبوعات كلّها رتابة وملل وتقليد وبين متون تضجّ بالحركية والإبداع والتجديد. والنّصر كان دائما، وبنتيجة ساحقة، للطّرف الثاني.
التّنوع في الموارد المعرفية مهم جدّا للباحث، فالمتخصّص المنغلق على تخصّصه يضيّع على نفسه مداخل مهمة في المعرفة؛ ويكفي في هذه العجالة أن أذكر أنّني وجدت إجابات على الكثير من أسئلتي الفكرية والفلسفية والتاريخية في الرّواية وليس في مظان التّخصص.
هل نفهم من كلامك أنّك تميل إلى فكرة “المثقّف العابر للتّخصّصات”؟
من العَيّ أن يكون المرء “متخصّصا في الجناح الأيسر للبعوضة” في الوقت الذي لا يفقه شيئا في غير ذلك، وقصّة بائع السّم مشهورة في هذا السّياق؛ وملخّصها أنّ رجلا حضر مناسبة اجتماعية، وكان النّاس ينفضّون عنه؛ وستكتشف زوجته السبب فيما بعد؛ إذ كان لا يعرف الحديث معهم في غير تخصصه؛ وهو السّم!
وفي المقابل فإنّ انعدام التّخصص آفة كبيرة أيضا، فلا بدّ للباحث من أن يكون متمكّنا من تخصّصه، ولمَ لا مرجعا فيه.
في هذا السياق، نموذجي الذي أستحضره الآن هو المفكر الرئيس علي عزّت بيجوفيتش؛ فهذا الرجل كان بحقّ علامة فارقة في تكويني الفكري على مستوى الرؤية والمنهج؛ عندما اكتشفته ـ حرفيّا ـ طرت فرحا، ووجدت صعوبة لسنوات في أن أستمتع بمتن فوق ما وجدته عنده في “الإسلام بين الشرق والغرب” و”هروبي إلى الحرية”. هذا الموسوعي هو من جعلني أحمد تنوّع اهتماماتي الفكرية وأفتخر بها، وهو من علّمني كيف أعبّئُها وأحشدُها أثناء حديثي وحين كتابتي. إنّه يستدعي كلّ معارفه من أجل تدعيم فكرته؛ من السينما والرسم والرواية والنحت والمعمار والبيولوجيا والفيزياء والتاريخ…
دهشتي بمعرفة علي عزّت عبّرتُ عنها بوضوح في مقالة تحت عنوان “إلى الذين لم يقرؤوا بعد الإسلام بين الشرق والغرب”.
هل أكون مبالغا إذا قلتُ أنّني أكتب لنفسي رغم ما يبدو على منشوراتي، خاصة الفايسبوكية، من طابع توعوي نقدي تنويري، وفي المقابل ـ وهذا فيه نوع من التضاد ـ لا أجد أي معنى لشيء أكتبه دون أن أنشره.
لم تأت على ذكر كتب ذات طبيعة فلسفية؟
تعتبر الفلسفة من المجالات المُحبّبة إليّ؛ في البداية قرأتُ الفلسفة بـ”الواسطة”، ثمّ انتقلتُ للتعامل مع الأصول بشكل مباشر، وقد بدأت هذا المسعى مع نيتشه مباشرة. خطير هذا الفيلسوف، خطير جدا؛ لندع الجانب السّلبي فيه، وهو متعلّق بالموقف الأخلاقي والقيمي. أسلوب نيتشه ولغته جميلان جدا؛ وإنّي لأغبط القارئ الذي يقرؤه بالألمانية، فلا شكّ أنه يستمتع به. نيتشه أيضا يعلّم قارئه كيف يكون جرّيئا في السّؤال؛ السؤال الذي هو جوهر الفلسفة والفكر عامّة. ومع ذلك أنّا أحذّر كلّ مَن لم يمتلك بعد الأدوات المنهجية الخاصّة للتحليل والقراءة من الاقتراب منه؛ إنّه “وحش” حقيقيّ! لقد رويتُ قصّتي معه في مقالة نشرتها في موقع هيسبريس (أبريل 2020) تحت عنوان: “حكايتي مع نيتشه الرّهيب”.
أنصح قُرّائي بثلاثة كتب مدرسية بديعة؛ هي: “مغامرة الفكر الأوروبي” لجاكلين روس، و”آلام العقل الغربي” لريتشارد تانيراس، و”تعلّم الحياة” للوك فيري. والكتابان الأوّلان يدخلان ضمن تاريخ الفكر الفلسفي وتطّور الأفكار. في حين ينضوي الثالث ضمن القراءات الخاصة لأفكار فلسفية محدّدة يقوم بها فيلسوف معاصر بأسلوب مدرسي خطير، ولكنّه حين حاول أن يعرض بعض طروحاته الشّخصية في الفصل الأخير لم يأت بجديد يذكر.
في ظلّ المتغيّرات التي يشهدها العالم المعاصر؛ كيف يمكن للمفكّر أن يؤثّر في المجتمع؟ وهل بمقدور الإبداع الفكري على اختلاف اختصاصاته أن يؤدّي إلى تغيير شامل؟ وكيف لذلك أن يحدث؟
التّغير الشامل مسألة مركّبة جدا، وليس بمقدور الإبداع الفكري وحده، مهما أوتي من انتشار وعمق، أن يُحدثه وحده؛ فالاقتصاد والسياسة ـ مثلا ـ لهما دور معتبر أيضا، ولكن الثّقافة والفكر لهما دور كبير، وهناك مَن يريد أن يقنعنا بأنّهما لم يعد لهما هذا الدّور الذي لعباه في القديم. من يقرأ كتاب “مَـن الذي دفع للزمار؟ الحرب الباردة الثقافية” سيعرف جيّدا عمّ أتحدّث.
في العادة، التّغيير الشامل تأتي به الحروب الكبيرة وليس الإبداع الفكري مهما اتّسم بالاجتهاد والتجديد.
لنعُد إلى الجزء الأوّل من سؤالك هذا، والذي يدور حول: “كيف يمكن للمفكّر أن يؤثّر في المجتمع؟”.
دائما، وعلى طول التاريخ، كان “المثقفون” ـ على اختلاف تسمياتهم، فلم يظهر المثقف إلا بعد حادثة دريفوس في فرنسا ـ كانوا يلعبون دورا طلائعيا في مجتمعاتهم، ليس كلّهم طبعا، بل جزء منهم، لأنّ هناك من كان ضمن الجوقة الممجّدة للحاكم ولاختياراته.
المثقفون هم الطّليعة، بهم يأتمّ النّاس إيجابا أو سلبا، نتذكّر هنا “سحرة فرعون”، وهم من ضمن مثقفي عصرهم، لقد كانوا في البداية من ضمن “الملأ”، ثم تحوّلوا، وهو ما أحدثَ الفرق ومنحَ دعوة سيدنا موسى زخما إضافيا ونقلها إلى مستوى جديد.
نتذكّر أيضا الدّور الكبير الذي لعبه المثقفون في الثورة الإيرانية، سواء التقليديون منهم (علماء الحوزة في قم، الخميني)، أو العصريون (علي شريعتي).
من وظائف المثقف التربية والتعليم والتوعية والنّقد والتحليل والتفسير والتفكيك وطرح البدائل، المؤسف أنّه تخلى عن أغلب هذه المهام، وارتكن إلى السّهل؛ إلى النّقد وهو في برجه العاجي، وهو منعزل في أرستقراطية فكرية مقيتة.
هل حان الوقت لنعلن عن موت المثقف بالأدوار الطلائعية التي ذكرناها؟
لا نيأس؛ فلا يزال “الدّاعية”، مهما كانت إيديولوجيته، يحتفظ بالكثير الذي يمكن أن يقدّمه لمجتمعه، المشكلة العويصة توجد في السّلطوية التي تضيّق الخناق على الجميع، ولا تسمح للمثقف بأن يكون مستقلا في فكره. لم تعد السلطوية تقنع منه بالحياد، بل تصرّ أن يكون في صفّها، وإلا فالعزلة والتهميش والتضييق، وربما السّجن في الكثير من الحالات، هو المآل الذي ينتظره.
ما العلاقة بين الاحتجاجات الاجتماعية والفكر؟ وأيهما أقدر على تأثير حقيقي في بنية المجتمع، خاصة مجتمعاتنا اليوم؟
ليس هناك قاعدة يمكن تطبيقها اطراديا على هذه العلاقة؛ فقبل سقوط جدار برلين كان من السّهل على الباحثين أن يجدوا خلف كل احتجاج اجتماعي فكرا معيّنا، وكان في الغالب ذا صبغة يسارية؛ فالمثقفون والفاعلون (أساتذة، طلبة، نقابيون…) كانوا يقفون نظريا وعمليا في بؤرة الحركة، ونستدعي هنا بشكل واضح انتفاضة طلاب فرنسا في ماي 68.
بتراجع اليسار، غداة سقوط الاتحاد السوفييتي، ظهرت تيّارات أخرى؛ في عالمنا الإسلامي تقدّم الإسلاميون المشهد، وكان الأستاذ عبد السلام ياسين قد استبق هذا المنعطف ـ الذي استشرفه ـ ونشر كتابه الموسوم بـ”الإسلام وتحدّي الماركسية اللينينية”، أكّد فيه بضرورة تقدّم الإسلاميين لاستلام “الملف الاجتماعي”، وعدم تركه حكرا على اليسار؛ لأنّ المدخل الاجتماعي مهم جدا في التّغيير الذي ينشدونه. فأذن الجائع لا تسمع نداء الصلاة كما كتب في غير ما موضع.
في الربيع العربي، كانت شرارة الانطلاق هي “الحكرة” وليس الفكر، ولكنّ الذي قاد، وأطّر، ونظّم، هم أصحاب فكر؛ إسلاميون ويسار. وكان المسار مُبشّرا لأصحاب الاحتجاجات، ولكنّه كان مخيفا لغيرهم في الدّاخل والخارج، فتمّ الاتفاق على وأده مهما عظم الثمن.
اليوم، كلّ الدّوافع التي كانت تُخرج الناس في السابق إلى الشارع موجودة؛ غلاء فاحش، سلطويّة متحكّمة قاهرة، احتكارات في السياسة والمال، اعتداءات يومية على الحريات، انهيار في المنظومة التعليمية، تدخلات خارجية… ولكنّ الجميع منكمش على ذاته، قانع بموقعه وحظّه؛ لقد تمّ “إرهاب” الجميع بالمآلات التي آل إليها الربيع العربي؛ فـ”اللهم الـعْـمْـش ولا العْـمِـيّه” كما عبّر أجدادنا بلغتهم اليومية البسيطة.
من المؤكّد أنّ “الفكر” إذا حصل وأن كانت له علاقة بالاحتجاجات الاجتماعية سيكون أكثر تأثيرا في “بنية” المجتمع، ولكن احتجاجاتنا اليوم لها طابع اجتماعي محض متعلق بالحياة اليومية للناس، والكثير منها قطاعي، والسلطوية لها أساليبها في “التنفيس”/الاستجابة كلّما أحست بخطورة الوضع.
ونحن نتابع أحداث طوفان الأقصى بعد تسعة أشهر من العدوان والجرائم الصهيونية وأيضا تسعة أشهر من الصمود من قبل الشعب الفلسطيني ومقاومته، ما قراءتك لهذا الصمود؟ وهل له من أثر على حاضر الأمة ومستقبلها؟
ما نعيشه اليوم في غزّة يفوق الوصف من جهتين: من جهة المَقْتَلة، ومن جهة الصمود؛ غزّة اليوم عرّت الكثيرين: الأنظمة الغربية، والنظام العالمي ومؤسساته، والأنظمة العربية، والكثير من الأحزاب والشخصيات السياسية والفكرية والفنية والرياضية.
لقد فهمتِ الدّولة الصهيونية أنّ لحظة “طوفان الأقصى” تشكل لها “سؤال الوجود”، ومن ثمّ جاء “جوابها” يحمل كلّ هذا الحقد والغلّ الذي ينتقم من كلّ شيء على الأرض؛ إنسانا كان أو حيوانا أو نباتا أو جمادا. والنتيجة دمارٌ شامل وهائل جدا فاق ما نشاهده في الوثائقيات حول الحرب العالمية الثانية.
قابل هذه النتيجة المأساوية نتيجة أخرى مُشرقة؛ تتمثّل في عودة القضيّة الفلسطينية لتحتلّ مكانتها في قلوب النّاس: وعيا وتضامنا. ما نشاهده اليوم من تعاطفٍ شعبيّ كبيرٍ في الشارع الغربي مُفرحٌ، ويشي بعودة “اليقظة” التي كانوا قد فقدوها أثناء استمتاعهم بنتائج “تقدّمهم” المادي. لقد أسقطت غزّة كلّ القيم الغربية الحداثية التي بدأت تكتسحهم مع “التنوير” وتقعّدت بشكل قانوني مع بروز هيئة الأمم المتحدة. لقد كشفت أنّ تلك المؤسسات والقوانين إنّما وضعوها ليتحكّموا بها في “الآخر” المتخلّف.
أمّا المقاومة فإنّ أشرف ما فعلته أنّها أسقطت ذهنيات كثيرة في حركيّة واحدة؛ أسقطت الانهزامية، والاتكالية، والانتظارية، وقدّمت نموذجا إنسانيا فريدا في الكرامة والعزّة. ما يقع في غزّة اليوم ـ من جهة المقاومة ـ يصعب إيجاد توصيف له، ولكن من أجل تقريب الصورة أقول بأنّه يقع بين الكرامة والمعجزة، وللأسف اللغة عاجزة اليوم عن إيجاد اسم يعبّر عن هذا المقام.
الأمّة، بل العالم، قبل طوفان الأقصى ليس هو نفسه بعده؛ العالم اليوم شرقا وغربا يعيش حالة نادرة في تاريخ وجوده، بل غير مسبوقة، وأفضل صورة نستطيع أن نمثّل بها لما يجري هي صورة “مخاض الولادة”، والذي سيهمّ أثره كلّ العالم، وكلّ النّاس، وهذا أمر لم يسبق أن حدث، وذلك بسبب التقنية ووسائل الاتصال الذي يجعل “خفقة الفراشة” في الشّرق تحدث أثرها في الأجواء العالمية في اللحظة والتّو.
كتبتَ عن الصهيونية، وتناولتَ عددا من قراءات المفكّرين لها، ووضعت لها مقارنات، أي مستقبل للصهيونية بعد هذه الأحداث التي زلزلت الشرق والغرب وأثّرت في المجتمعات الغربية؟
يُجمع كلّ المفكّرين أنّ كلّ احتلال مآله إلى الزّوال، فلكي يستمرّ ويدوم ليس أمامه سوى إبادة الشعب الأصلي واستيطان الأرض مكانه، وقع ذلك في الأمريكيتين بشكل غاية في الوحشية، وهذا أمر مستحيل حصوله في فلسطين.
عبد الوهاب المسيري يعتبر “إسرائيل” “جماعة وظيفية” صنعها الغرب ضمن تشكيلاته الاستعمارية ليضمن تدفّق مصالحه، وهناك من يرى العكس؛ يرى أنّ “إسرائيل” هي المتحكّمة، وهي صاحبة اليد العليا في العالم، بما تتوفّر عليه حاضنتها الدينية من أموال وعقول جعلتها تسيطر على كلّ مفاصل حركية العالم.
ومهما يكن من أمر فإنّ الجميع بات مقتنعا أنّ العالم قريب الشفاء من هذا السّرطان، ولكنّني أعتقد أنّ الصهيونية لن تسلّم ببساطة بهزيمتها؛ لذلك ستعمل على قلب الطاولة على الجميع. أتوقّع أنها ستزداد عنفا وشراسة وإرهابا إن هي أحسّت بقرب الزوال. هل هناك من “عقلاء أقوياء” في العالم يستطيعون اليوم إيقافها عن المُضيّ قدما في مغامرتها القاتلة؟
للأسف، لا أرى مؤشّرات تدلّ على وجودهم! لقد تقمّصت الصهيونية الكثير من “الأجساد الحضارية” وتحكّمت في حركيّتها، ومسؤوليتنا المستقبلية الخطيرة أن نفصل بين روح الشّر هذه وبين باقي الأجساد التي استوطنتها.
كتبتَ أيضا عن الحداثة، وأنت الآن ذكرت شيئا منها في حديثك. هل في نظرك هناك مداخل أصبحت واضحة أكثر من أي وقت مضى لنقد الحداثة الغربية؟
في مسألة نقد الحداثة الغربية، استفدتُ من ثلاثة نقّاد: عبد العزيز حمّودة من خلال ثلاثيته البارعة “المرايا المحدّبة” و”المرايا المُقعّرة” و”الخروج من التّيه”، وعبد الوهاب المسيري، من خلال العديد من مؤلّفاته، وخاصّة سيرته، وحواره الطويل الذي صدر في أربعة أجزاء، وكتابه “العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة”. أما النّاقد الثالث فهو طه عبد الرحمن، من خلال كلّ كتبه التي أنشأها بعد تخلّيه عن مشروعه الفكري الأوّل. وأنصح بالعودة إلى كتب هؤلاء الذين يجمع بينهم الاشتباك النّقدي مع الحداثة من المدخل “الأخلاقي”، وهو المدخل الوحيد الذي أراه قادرا على الاستفادة من منجزاتها دون التّماهي معها.
إلى جانب اهتماماتك الفكرية، صدرت لك أعمال أدبية ونقدية، وتكتب في القصة وغيرها من صنوف الأدب. ما رهانات تجربتك في الكتابة الأدبية؟ وما يميزها عن الكتابة المباشرة في باقي مجالات المعرفة؟
تخصّصي الأكاديمي هو الأدب والنّقد، وأكثر ما أستمتع بكتابته هي السيرة الذاتية والرسائل؛ أنشأت في الجنس الأوّل الكثير من النصوص نشرت بعضها في “شرف التلمذة” و”حريق في القلب”، والثالث لم يظهر بعد تحت عنوان: “خمس سنوات في الجامعة: ذكريات طلابية”، أمّا الرسائل فقد تبادلت الكثير منها مع الصديق الأديب الشاعر فيصل أمين البقالي، وهي مجموع في أكثر من ثلاث مائة صفحة، أرجو أن نوفّق في الخروج بها على النّاس ذات يوم.
المشكلة أن الكتابة في الفكر وخاصّة السياسة تغويني إلى حدّ بعيد، فالتّهمم بالواقع وأحداثه مسألة لها الأولوية بالنّسبة لي، فأنا في نهاية التّحليل صاحب فكرة، و”داعية”، وإيديولوجي بالمعنى الإيجابي.
رهاني وأنا أمارس الكتابة الأدبية له طابع تربوي بالدّرجة الأولى؛ فقصصي كلّها لها حمولة أخلاقية، تعليمية، تربوية، وهي مما يُشَجَّع على تدريسها للتلامذة والطلبة، لأنّها تضجّ بالأخلاقية والقيم. لستُ محايدا، أنا متحيّز جدا لقضايا الأمة، ولهمومها ومشاغلها.
أنا أومن أنّه من طبيعة الفكر والثقافة خدمة البعد القيمي للمجتمعات وإطاراتها المرجعية والأخلاقية، وأنا ضدّ الفكرة التي تعتبر هذه الأمور قيودا ومبالغات ينبغي تجاوزها وأن يكون المقصد “الإبداع” وكفى تحت شعار “الفن للفن” والأدب من أجل نفسه.
بماذا تنصح الكُتّاب والمبدعين الشباب، في قضايا الأسلوب واللغة والفكرة ومكونات الكتابة الإبداعية؟
أولا: لا بدّ من المطالعة الكثيرة للكبار أصحاب الأسلوب الشخصي، وأصحاب البصمة الخاصّة، وأذكر منهم على سبيل التّمثيل: الرافعي، وسيد، وطه حسين، والعقاد، وشاكر، زكي مبارك، وحقي، ومحفوظ. دون أن ننسى كاتبين كانا يعرفان كيف يبلّغان أفكارهما بطريقة سهلة وسلسلة؛ أقصد سلامة موسى، وأنيس منصور، فطريقتهما في الكتابة من النوع الذي يصحّ وصفها بـ”السّهل الممتنع”.
القارئ المتمرّس لا يخطئ أبدا أسلوب أولئك الكبار؛ وإنّه لتحدّ كبير حتى يصل الواحد منّا إلى هذا المقام، وأنعم به من مقام.
ثانيا: أن يفرض على نفسه “وردا” يوميا في الكتابة، مهما قلّ، وإن كانت بضعة أسطر، نشر ذلك أم احتفظ به لنفسه وللزّمن. وإن كنتُ أفضّل النشر. فالكتابة عندي مرتبطة بشكل آلي بالنّشر، فلا معنى في تجربتي الكتابية للكتابة دون نشر.
ثالثا: أن تكون له “صُحبة” من أصدقاء مُحبّين، يتقاسم معهم الأفكار ويثوّرها معهم، ويُطلعهم على مكتوباته قبل النّشر، على الأقل في المراحل الأولى قبل أن يدخل عالم الاحترافية، فينتقدون ويقوّمون ما يقوله وما يكتبه بخلفية بنائية.