اختارت شبيبة العدل والإحسان شعار: وفاء يتجدد لإمام مجدد)، لإحياء الذكرى الأولى لرحيل مرشدها عبد السلام ياسين رحمه الله، ولعل الاختيار كان موفقا لما تحبل به كلمة وفاء من دلالات، يفيض مبناها بمعاني غزيرة تُشكل مجتمعة حلقات متكاملة للصلة الدائمة المستمرة والرابطة الحية المتجددة.
في معنى الوفاء
تحمل كلمة وفاء في اللغة معاني عدم الغدر والتمام والكثرة والإشراف وإيفاء الحق وتوفيته والتتام. من هنا، يعني الوفاء المتجدد للإمام المجدد الثبات على مشروعه/منهاجه وعدم الغدر بعد تمامه خطا وكتابة، وكثرة حملته جماعة ودعوة، والإشراف عليه بعد وفاته بإيفائه وإعطائه حقه كاملا بتوافي معتنقيه والمنخرطين في سربه وتتابعهم جيلا بعد جيل توارثا، في تكامل وتعاون وتكملة ومواصلة.
في سر التجديد عند الإمام المجدد
يجود الله على الأمة المحمدية، فيبعث لها من يجدد لها دينها، وإذا كانت أوجه التجديد كثيرة والمساهمون فيه كثرا، فإن المجددين البالغين ذرى الإحسان، الجامعين شتات المعارف والعلوم، المُحيين للقلوب والعقول والإرادات، المُحركين لها لتحقيق الأهداف السامقة مطمحا، العميقة نظرا، البعيدة زمنا، قليلون نادرون؛ يقول سيد قطب رحمه الله: إن الرواد كانوا دائما، وسيكونون هم أصحاب الطاقات الروحية الفائقة، هؤلاء هم الذين يحملون الشعلة المقدسة التي تنصهر في حرارتها كل ذرات المعارف، وتنكشف في ضوئها طريق الرحلة، مزودة بكل هذه الجزئيات قوية بهذا الزاد، وهي تغذ السير نحو الهدف السامي البعيد)!
إلى أن قال: إنهم قليلون.. قليلون في تاريخ البشرية..بل نادرون! ولكن منهم الكفاية.. فالقوة المشرفة على هذا الكون، هي التي تصوغهم، وتبعث بهم في الوقت المقدر المطلوب!) 1 .
إن سر التجديد الذي أحياه الإمام المجدد رحمه الله بعد اندراس، هو الصحبة في الله إحياء للربانية وحياة بها في حياة المسلم فردا والمسلمين جماعات وأمة تهيئا لتعم معاني الرحمة الإيمانية الإحيائية ساكنة الأرض إلى يوم الدين، فلا غرو أن يجعل الإمام رحمه الله الصحبة أول الطريق) 2 مجاهدة وجهادا، إحسانا وعدلا، ترقيا من إسلام لإيمان لإحسان في طريق السلوك إلى الله وسيرا في طريق الجهاد الجماعي الآفاقي تحقيقا للعدل لمستضعفي الأمة والإنسانية جمعاء، على أثر الجهاد النبوي الصحابي.
في تجديد الوفاء للإمام المجدد
يعطي الإمام المجدد رحمه الله مفهوم الصحبة معنى شاملا يكشف منهاج الرسول صلى الله عليه وسلم في التربية ويُحييه نسجا على منواله لتأسيس تربية شاملة متوازنة، توازن بين حركة القلب رحمة، وحركة العقل حكمة، وحركة الجوارح تمثلا وعملا، يقول رحمه الله في معرض ترتيب مآتي التربية ومآخذها: الصحبة تشرب قلبي، وقدوة ماثلة، وتعلم) 3 .
من خصائص التربية في مشروع الإمام المجدد رحمه الله التوازن، ومن شروطها بل أول شروطها الصحبة والجماعة)، فسرت في جماعة العدل والإحسان معاني الصحبة بما هي تشرب قلبي وتلمذة عقلية وتمثل سلوكي طيلة حياة الإمام، ولم يفته في وصيته التذكير بضرورة المحافظة على تلازم الصحبة والجماعة راجيا ربه ذلك، داعيا إخوانه لسؤاله قائلا: لذا أوصي بالصحبة والجماعة، بالصحبة في الجماعة… الرجاء من الملك الوهاب أن تكون الصحبة والجماعة متلازمتين تلازم العدل والإحسان، لا تطغ جذبة سابح في النور على شريعة)واتمروا بينكم بالمعروف. أوصي أن يدعو أحبابي إخواني ربنا عز وجل أن يمسك وحدة الصحبة والجماعة كما يمسك السماوات والأرض أن تزولا) 4 .
لا تنتهي الصلة بالإمام المجدد بوفاته، بل تستمر، ويكون الوفاء له أمانة في الأعناق صدى ترجعه إن شاء الله أجيال العدل والإحسان إلى يوم الدين) 5 لذلك أرى – والله أعلم- أن تجديد الصلة والرابطة به ينبغي أن تكون قلبية وعقلية وسلوكية.
تجديد الصلة القلبية
من حقوقه المعنوية استمرار التزاور في الله معه:
– محبة ودعاء، وذاك كان قصده الأول من وصيته أن يقف عليها مومن وتقف عليها مومنة يسمعانها مسجلة بصوتي أو يقرآنها مسطورة فيترحمان على ثاو في قبره أسير ذنبه راج عفو ربه… وصية ليتذكر متذكر ويدعو داع فتلتئم أواصر الصلة ويتحقق التزاور في الله عبر الزمان. لا تحبس الصلة برازخ الموت) 6 .
– إهداء القرب: ذكر الشيخ التليدي حفظه الله أن الإمام النووي وغيره حكى الإجماع على وصول الصدقة من الحي إلى الميت. بل قال ابن قدامة في المغني [2/423]: وأي قربة فعلها وجعل ثوابها للميت المسلم نفعه ذلك إن شاء الله تعالى…) 7 ، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه بأن “من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا” 8 .
تجديد الصلة العقلية
من المزايا التي قلما تجتمع في العلماء والمصلحين والمجددين، تأليف الكتب الحاملة لمشروع تجديدي تغييري نسقي متكامل- وليس التأليف في علم من العلوم أو فن من الفنون فحسب-، وتأليف الرجال وتربيتهم وتنظيمهم لحمل هذا المشروع والتدرج في تنزيله بناء ورصا للعامل الذاتي، وتفاعلا ومطاولة ومصاولة للعامل الخارجي محليا وعالميا.
ترك الإمام المجدد إرثا علميا كبيرا مبثوثا في ثنايا تآليفه ما نُشر منها وما لم يُنشر، ومسموعاته ومرئياته، فهو من العلم الذي يُنتفع به من الأجيال المتعاقبة، فالعظام لا يقدر الناس علمهم حق القدر إلا بعد وفاتهم، بل لا يظهر لهم صواب أفكارهم وجدواها إلا بعد مضي السنين، لأن العظام دائما لا يكتبون لأنفسهم، بل يكتبون للآخرين، لسعادة الإنسان في كل بقاع المعمور.
كتب الإمام المجدد رحمه الله بقلب ملتاع على حال الأمة، وعقل متقد يفكر في خلاصها ولملمة جراحها واسترجاع عزتها ووحدتها، شافعا ذلك بحركة دعوية نشيطة، لذلك من الوفاء له التتلمذ على علمه الغزير الفياض بمذاكرته، لأن مذاكرة العلم حياته) كما يقال، وتلك مهمة جسيمة على كاهل أبناء مدرسة العدل والإحسان، وعلى كل من يقدر الرجل قدره ويوفيه حقه، وقد كان المؤتمر الأول المنظم بتركيا حول مركزية القرآن في نظرية المنهاج النبوي) قبل وفاة الإمام أول الغيث تعريفا بمشروعه التجديدي على نطاق واسع، تلاه الندوة العلمية التي نظمتها العدل والإحسان في بيت الإمام بمناسبة الذكرى الأولى لرحيله، التي خرجت بتوصية تأسيس مركز أكاديمي للعناية بفكره، ويسير في هذا الاتجاه ما نظم قبل ذلك وما ينظم مستقبلا من مؤتمرات وأيام دراسية ومحاضرات وندوات وموائد مستديرة… دون إغفال أهمية الحوارات التي تجرى مع من صحبه من قيادات العدل والإحسان، واللقاءات التي تجمع الآخر بأبناء مدرسته وبناته، إلى جانب المجلات المكتوبة والسلسلات والكتب المُعرفة بفكره.
تجديد الصلة العملية
كان الإمام المجدد رحمه الله قدوة حية ماثلة أمام أبناء مدرسته وبناتها، وأمام الجميع عربا وعجما، مغاربة ومشارقة، مسلمين وغير مسلمين، كان قدوة:
– في العبادة لربه والتذلل بين يديه والتبتل والإخبات له.
– في كثرة مطالعاته للكتب والمجلات تعرفا على العلوم الشرعية والكونية والإنسانية، وبلغات مختلفة.
– في التأليف والكتابة.
– في تربية الأجيال وتنظيمها رجالا ونساء، أطفالا وشبابا.
– في نصح الحكام والعلماء والفضلاء وعامة المسلمين.
– في إتقان مهام التربية والتعليم.
– في الرفق والسلمية ونبذ العنف، وفي الصبر والعفو والتصدق بالعرض على من آذاه.
– في التواصل والعلاقات الإنسانية، وفي حب الخير لأمته وللإنسان بغض النظر عن دينه ولونه ولسانه…
جمع الإمام من الأخلاق أصولها وأمهاتها، فاغترف منه من صحبه وعاشره عن قرب أو عن بعد من معاني الدين أسماها، ومن الأخلاق أعلاها، ومن المروءات أرقاها، ومن الآداب أرقها، ومن المعارف أجمعها وأحكمها، فحق لهؤلاء الافتخار والاعتزاز، ومن حقه عليهم التقدير والاعتراف، ومن حق من سمع عنه وعرفه أن يأخذ عنهم.
ختاما
كان الإمام المجدد رحمه الله رجلا أمة، ومدرسة للأجيال، وملهما للدعاة والمفكرين والعلماء… فمن الوفاء له تجديد الصلة القلبية به حبا ودعاء، والصلة العقلية تعلما وتلمذة، والصلة السلوكية تمثلا واقتداء.
أفراح الروح، سيد قطب، ص 18-19.
[2] تنوير المؤمنات، عبد السلام ياسين، ج 2، ص 340.\
[3] المرجع نفسه، ص 335.\
[4] وصية الإمام المجدد رحمه الله.\
[5] وصية الإمام المجدد رحمه الله.\
[6] وصية الإمام المجدد رحمه الله.\
[7] إتمام المنة بشرح منهاج الجنة في فقه السنة، الشيخ عبد الله التليدي، ص 409.\
[8] الحديث رواه الإمام مسلم [2674] وأبو داود [4609] والترمذي [2674] وابن ماجة [206].\