لا يمكننا فهمُ ما يجري من أحداث جسام داخل الأمة الإسلامية، الفهم الهادي إلى الفعل السديد والقوي، دون وضع كل ذلك في سياق الموعود الإلهي الذي أرست قواعده آيات الذكر الحكيم، وبشّرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث أخبرنا في أحاديثَ صحيحةٍ أنّ للأمة موعدا محتوما مع النصر الشامل والتمكين في الأرض. ومن هذه الأحاديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: “يبلغ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر، إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر”.
بواسطة هذا المفتاح النبوي الغيبي نَفتَح بإذن الله تعالى بوابة التاريخ لنستشرف مستقبلنا بثبات وحكمة وإقدام، لا يستخفنا طغيان القوى الدولية المتآمرة علينا، ولا خذلان الحكام من بني جلدتنا، ولا ظرفيةٌ معينة هنا أو هناك، لأننا بتنا نعلم بعد أن انشرحت صدور الأمة لبشارة النبي صلى الله عليه وسلم أنّ التاريخ قد انعطف انعطافه الكبير وأصبح يتحرك نحو إحقاق نصرٍ ظاهر للأمة.
نحن إذاً في زمن بدايات أمّةٍ تنهض نهضتها العظمى لتسود قِيَمها النورانية العالم بأسره. نهضةٌ من شأنها صياغة نظام عالمي جديد يرتكز على الهدى والعدل والسلام والتراحم بين بني البشر. إنها مهمة ضخمة يكاد يجزم الغافل الخبير بحال راهن الأمة وأمم العالم، بأنها مهمة مستحيلة، وأنّ من يقول بهذا القول ويدعو إليه إنما يدعو إلى وهمٍ فاحش، ويُمنّي الناس تمنية المغفل المخدوع.
لسنا من هواة السباحة في العوالم الخيالية، أو القفز فوق أعمدة حقائق الواقع، فنحن والحمد لله واعون أشد الوعي بأنّ نصر الله تعالى لا يتنزل إلا على قوم يقرنون بين الإيمان والعمل، والرجاء والكد، والاستبشار والتخطيط، والنصر والجهاد، وأنه متى اتخذ المسلمون لأنفسهم مقعدا للفرجة ظانّون أن نصر الله تعالى سيتنزل عليهم لمجرد أنهم مسلمون بينما غيرهم يواصلون الليل بالنهار عملا واتخاذا لأسباب النجاح، فقد سطّروا لأنفسهم عنوان خسارتهم وسبب خيبتهم.
دون النصر الموعود تحديات هائلة، لا شك في ذلك، لكننا نؤمن أنّ الأمة قادرة بعون الله تعالى وتوفيقه على النهوض من جديد، رغم كل الشدائد والمحن فيوم الأمة خير من أمسها، وغدها إن شاء الله تعالى خير من يومها، ولا يكاد يُغلق لها باب حتى تُفتح لها أبواب بإذنه سبحانه.
إنّ من توفيق الله تعالى أن يكون منطلقنا بشائرَ النبي صلى الله عليه وسلم، البشائر التي وفرت لنا أفقا استراتيجيا واسعا، أوسع بكثير مما يوفره ارتهاننا بواقع الأمة الضعيف والضيق، وأوسع من أفق أعدائنا، إذ أنبأتنا أنّ رياح التاريخ ستهب لصالحنا، فالتاريخ بجبروته، وبِكَيْد سنواته وشهوره، وتقليب لياليه ونُهُره، وزَحف ساعاته ودقائقه، يسير نحو خير كبير يعم الأرض، شرطه ومبتدأه نهضة أمّة الإسلام.
المطلوب الآن، هو توجيه أشرعة سفن الأمة نحو تلك الرياح الطيبة. ومن أجل ذلك، لا بد أولا من إرادة صادقة على الإبحار، فغياب تلك الإرادة هو داء الأمة العضال. حيّا الله رجال المقاومة الأبرار في فلسطين يُلقّنوننا الإرادة الجهادية من غزّة الأبيّة بالصوت والصورة، تحدٍ وشموخ لا مثيل له، نصرهم الله وثبت أقدامهم. ثم، لا بد بعدها من الالتفاف حول الربابنة أصحاب القلوب الحية، إذ هم القدوة والبوصلة. فنحن أمة الاقتداء بامتياز، الأصل أننا نعرف لخيارنا نورهم وفضلهم وحكمتهم، ولا نستنكف عن جعلهم في الصدارة لقيادة الركب.
إننا إزاء أمة تنتقل من واقع ضعفٍ وهوان، هو يَفنى رويدا رويدا، إلى أفق قوة وتمكين آتٍ بإذنه تعالى، وإن بدا للغافل عكس ذلك. والموفق مِنّا من يحوز السبق مع السابقين، ويحجز لنفسه مكانا بين العاملين للنصر القادم، لا يبرحه مهما كانت الصعاب، ولا يضعف يقينه مهما عظمت العقبات، ولا يلتفت للمنهزمين القاعدين، يُسطّر بجهاده متن التاريخ ويترك لغيره التعليق في الهوامش والحواشي. يَبني لاحقُنا على عمل سابقنا، ويجتهد ويُطور في الوسائل والآليات، جيلا بعد جيل، إلى أن تُنجز المهمة على التمام والكمال بإذن الملك الوهاب. يقول الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله في كتاب “العدل”: “لنا مع الله يقين واحد: هو أن العالم في مخاض لميلاد الإسلام الجديد. ولله ملك السماوات والأرض”.