مقدمة
إن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعات والقربات وينقص بالمعاصي والغفلات، ويكون لذلك أثر في أعمال العباد وسلوكاتهم وتصرفاتهم ومعاملاتهم أفرادا وجماعات. فعندما يطول الأمد تنطمس الفطرة وتقسو القلوب، فيوسوس شيطان الهوى للنفوس فتهوي في دركات الشهوات والذنوب، فتكون الحاجة ملحة لمن يدعو ويذكر ويعلم ويصلح بالمقال والحال، بشيرا ونذيرا، وسراجا منيرا، ليرجع إلى الصواب من سبقت له من الله الحسنى ويتوب، تلك كانت وظيفة الأنبياء والمرسلين، إمامهم في تلك المهمة العظمى سيدنا محمد خاتمهم عليه وعليهم جميعا صلوات الله وسلامه. واقتضت حكمة الله تبارك وتعالى، أن تستمر هذه الوظيفة النبيلة بعد انقطاع النبوة، فيقيض لها من خلقه من دون الأنبياء عبادا له يهيئهم ويصطفيهم ويلهمهم ويوفقهم، ويبعثهم على رؤوس القرون بعد رسول الله ليجددوا لهذه الأمة دينها، إنهم من خاصة علماء الأمة، وهم أمناء الرسل وورثة الأنبياء عليهم السلام.
تجديد الدين والإيمان
روى الأئمة أبو داود والبيهقي والحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”.
وروى الإمام أحمد والطبراني، ورجال أحمد ثقات، والحديث صححه الإمام السيوطي “عن أبي هريرة رضي الله أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “جددوا إيمانكم” قيل “يا رسول الله وكيف نجدد إيماننا؟” قال: “أكثروا من قول لا إله إلا الله””.
يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: تحصل لنا من هذه الأحاديث الشريفة أن الإيمان يبلى فيجب تجديده، يضعف فتتعين تقويته وأن الأمة تكلؤها عناية الله فيبعث سبحانه لها من يجدد لها دينها، وأن الإيمان يعالج من بلاه وضعفه بطب موصوف لا لبس في كنهه وماهيته ووسيلته) 1 .
ويقول الإمام أيضا: ترك فينا الحبيب صلى الله عليه وسلم كلمة الله الحية، وترك فينا رجالا مؤمنين أحياء. والإيمان والإحسان يتجددان بالاعتصام بالحبلين العظيمين، كتاب الله وسنة رسول الله، ومن سنته العترة الطاهرة، وهم عموما كل متق ولي لله، وخصوصا الطاهرون الأولياء، وهم آل البيت حقا. باعتصامنا الصادق بهما يتجدد إيماننا حتى يتطابق مع إيمان الصحابة…) 2 .
تجديد الدين بالنسبة للفرد يقوم على تجدد الإيمان في قلب العبد المسلم بالإكثار من ذكر الله، وإتيان الطاعات وهجران المحرمات، فيحصل له التجافي عن دار الفناء، والنهوض للعمل الصالح بنية صالحة يرفعانه إلى مقام المؤمن المتطلع إلى الفوز في دار البقاء، ثم يترقى في مدارج الإيمان عندما يجد وليا لله خبيرا عارفا بالله يأخذ بيده ويجنبه عثرات الطريق، حتى لا تكون له حاجة تحجبه عن الأنس بالله ولا مطلب دون ابتغاء وجه الله، هذا في حق الفرد نستشفه من خلال شروحات الإمام ياسين المستفيضة لمعاني الصحبة والتي اعتبرها من آكد الركائز في منهاج تربية وتغيير الإنسان المسلم، في غير ما موضع من كتبه، أما تجديد الدين بالنسبة للجماعة المنجمعة على الله، لعمارة الأرض بشرع الله وإعزاز أمة رسول الله، فلا بد له من ثلاث ركائز أساسية سماها الإمام رحمة الله عليه في كتابه “المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا” بالنواظم الثلاث، وهي الحب في الله، النصيحة والشورى ثم الطاعة المأمور بها في الكتاب والسنة. هي أسس ثلاثة عليها، يمكن بل يجب بناء جماعة منظمة من المؤمنين يعملون لإحياء الأمة من موات وجمع شملها من شتات. غياب إحدى هذه النواظم الثلاث سواء في روح الجماعة أو جسدها يجعلها تجمعا آخر غير التجمع الإيماني المُسَدَّدِ القاصدِ السائر على جادة الصواب.
شعب الإيمان
في صحيح الإمام مسلم، رواية عن شعب الإيمان يقول فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان”، شعب الإيمان هذه البضع والسبعون، وهي عند الإمام البخاري بضع وستون، لم يسردها النبي صلى الله عيه وسلم سردا، لكنها مبثوثة في كتاب الله وسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وقد سبق أن صنف وكتب فيها كل من الإمام الحليمي والإمام البيهقي رحمة الله عليهما، ثم اجتهد في تناولها الإمام ياسين اجتهاد مجدد موفق، فصنفها إلى عشر عناوين كبرى سماها الخصال العشر، هي 1- الصحبة والجماعة، 2- الذكر، 3- الصدق، 4- البذل، 5- العلم، 6- العمل، 7- السمت الحسن، 8- التؤدة، 9- الاقتصاد، 10- الجهاد؛ كل منها تتضمن مجموعة من شعب الإيمان تتقارب وتتكامل فيما بينها في مغزاها الروحي والسلوكي، ودرسها وحلل معانيها من الجوانب التربوية الفردية، والجوانب التنظيمية الجماعية، ومقتضيات الجهاد والزحف لتحرير الأمة وإعلاء كلمة الله، كل ذلك في ارتباط وثيق مع واقع الأمة، وفي ضوء المرحلة التاريخية التي تعيشها وتمر منها، واستشرافا لمستقبل الإسلام. هذا في الوقت الذي ينشغل فيه كثير من أهل العلم في جزئيات الفقه، وآخرون في فروع العقيدة، وغيرهم في توبيخ عامة الناس وتحميلهم مسؤولية الفساد والإفلاس والإنذار الشديد بيوم الوعيد، كل منهم منهمك في مجال انشغاله قلما يجاوزه شبرا، وهذا طبعا لا يفيد التنقيص من أية جزئية من جزئيات ديننا الحنيف بأي حال من الأحوال، لكن جمع كليات الدين وفرعياته في انسجام وانتظام، وضبط فقه الواقع وإدراك الأولويات، أمور لا يقدر عليها إلا كُمَّل الوارثين وأكابر المجددين.
الغاية الاستخلافية والغاية الإحسانية
كان الصحابة رضوان الله عليهم رهبانا بالليل فرسانا بالنهار، لم يكن السعي التربوي الإيماني الإحساني عندهم منفصلا عن نداء “يا خيل الله اركبي” ولا عن هموم السياسة والمعاش ومخالطة الناس برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، لا تتعارض عندهم دمعة المحراب مع غبرة ساحة الحِرَاب، لكن مع حلول حكم السيف، أقصي أهلُ العلم من الشأن العام للأمة وحوصروا في زاوية العقائد والكلام وأحكام الوضوء والحيض والنفاس، وانزوى الصوفية هروبا بدينهم في العزلة والزوايا، وشرعن آخرون للأحكام السلطانية حفاظا على بيضة الأمة أن تنكسر، وقد كانت للأمة يومئذ منعة ووحدة وهيبة تجاه المتربصين حينا من الزمان، صبر الصالحون على نقض عروة العدل حفاظا على حوزة الأمة، حتى لا يضعفها الخلاف، وتفتك بها الفتن الداخلية فتكون لقمة سائغة للدول الكافرة المتربصة آنذاك، لكن الآن لم تعد للأمة وحدة سياسية ولا شوكة إزاء العدو، ولا شيء مما كان يخشى عليه سلفنا رحمهم الله أن يضيع، لم يعد لدى الأمة ما يمنع العلماء والدعاة أن يصدعوا بالحق في وجوه الحكام الظلمة العملاء للأعداء.
بعد إشارة عميقة رائعة إلى أن العدل قد تيتم بيننا، يقول الإمام العلامة المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله نظما بليغا:
هلموا ننكر الظلم
ننازله نقاتله
لقد كانت قومة الإمام ياسين بحق قومة جامعة لما تفرق في أزمنة العض والجبر، قومة تروم مطلب الإحسان غير منفصل عن مطلب العدل، وتصل تبتل الليل بسبح النهار، نسج رائع عجيب أثل له الإمام تنظيرا وتأليفا وتربية وتنظيما، إنه ازدواجية الخلاص الفردي والخلاص الجماعي.
تجديد الدين على مستوى السلوك التربوي للفرد وعلى مستوى السير التنظيمي للجماعة، مطلبان إذن هما مناط التجديد في فكر الإمام عبد السلام ياسين، رحمه الله وأسكنه فسيح الجنان، لا يفترقان في منهاجه وتنظيره كما حدث في الأمة منذ أن رفع الله الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، وتحول أمر الأمة من حكم الشورى إلى ملك عضوض، ذلكم الحدث التاريخي المزلزل الذي سماه بالانكسار التاريخي.
المطلبان أمر إلهي وجب السعي لتحقيقهما، استنبطهما الإمام من البلاغ الإلهي القرآني، وسماهما بالغايتين الاستخلافية والإحسانية، وذلك في قوله عز من قائل في سورة العنكبوت: إن الله يأمر بالعدل والإحسان، فهمَ الإمامُ العدلَ المأمور به في كتاب الله في شموليته، عدلا في الحكم، عدلا في القضاء، عدلا في قسمة الأرزاق، وعدلا في كل شيء، أما الإحسان فأورده في كتاب الإحسان بمعانيه الثلاثة المذكورة في الكتاب والسنة النبوية الشريفة، الإحسان بما هو إتقان للعمل، وإحسان المعاملات مع الخلق، وإحسان العبودية للخالق. حاصل القول في نظرية المنهاج النبوي التي أثل لها طويلا في العشرات من مؤلفاته، أفإن همَّ الفرد وحاله بين يدي الله في الدار الآخرة لا ينفك عن مصير الأمة التاريخي ورسالتها ومكانتها في العالمين.
حديث الخلافة
من أهم أبواب التجديد في فكر الإمام، طريقة تناوله لحديث الخلافة، حديث لا يكاد يخلو مجلس من مجالسه من ذكره والاحتفال به، وقلما تقرأ كتابا من مؤلفاته دون الوقوف عليه، لما يوليه من أهمية لهذا الإخبار الغيبي النبوي، يبسطه للأمة المحمدية شحذا للهمم وتحفيزا وبشارة، وكان رحمه الله من أكثر العلماء والدعاة والمفكرين استبشارا وفرحا ويقينا ببشارة عودة الخلافة الثانية على منهاج النبوة، بعد قرون العض والجبر، مؤكدا من خلال قراءته وفهمه للتاريخ على أن الأمة تعيش آخر حياة عهد الملك الجبري، وأن على ذوي الهمم العالية وأهل الفضل والصلاح أن يتهيؤوا ليكونوا أهلا لتنزل قدر الله بالتمكين لدين الله على أيديهم، ومن تخلف عن الركب فلا يلومن إلا نفسه يوم لا ينفع الندم، فالنصر آت، آت، آت. فهاك أخي القارئ ويا أختي الحديث البشارة: روى الإمام أحمد رحمه الله بسند صحيح ينتهي إلى حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا عاضا فتكون ما شاء أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا جبريا فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة. ثم سكت”. حديث نبوي عندما نتفحصه في السياق التاريخي والمراحل التي مرت به أمتنا وتمر به حاليا، نستخرج منه علما وفهما عظيمين، فهو خبر أتانا ممن لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، وبقدر ما هو قضاء وقدر من أمر الله سبحانه وتعالى لا راد له، فهو أيضا أحداث على صلة بما كسبت أيدي الناس، وفيه لكل أهل زمان ومكان قدر من المسؤولية في فهمه والعمل والتعامل معه وفق ما تقتضيه سنن الأسباب والتدافع.
فمن الناس بل من الدعاة من يعتبر أن الخلافة على منهاج النبوة لن تقوم حتى نزول عيسى عليه السلام، فَيُفهم من كلامهم ضمنيا رفع الحرج والمسؤولية عن العمل الدؤوب لإقامتها، وقد يُخفي الموقفُ ما يخفيه من الجبن والاستسلام أمام سطوة حكام الجبر.
ونبه الإمام من جهة أخرى إلى خطإ المؤرخين في إطلاق لقب الخلافة على الامبراطوريات الأموية والعباسية والعثمانية وغيرها من أنظمة الحكم بعد الخلافة الراشدة التي قوضها بنو أمية، وتلقيب أمراء هذه الدول بالخلفاء، مما يتعارض مع التسمية النبوية الشرعية. كلا والله ما هم بخلفاء بل هم ملوك عض وجبر، فلفظ خليفة يحمل دلالة سامية جليلة، يعني خليفة رسول الله، وخلافة رسول الله تتأسس على الشورى والعدل والإحسان، فمتى كان الظلمة المتسلطون أهل عدل وإحسان؟ ومتى عرف وارثو الحكم أبا عن جد معنى الشورى ومعنى حرمة الأمة وكرامتها حتى نسميهم خلفاء ونوابا لرسول الله؟