لفتت الأستاذة فاطمة متوكل إلى أن العبارة المتداولة “الدين المعاملة” ليست حديثا نبويا كما قد يبدو لبعض من يروجه. لكن مضمونها مبثوث في آيات قرآنية وأحاديث نبوية شريفة، وهي من صميم ما دعا إليه الدين وحث عليه الشرع.
وبينت المتحدثة أن القرآن الكريم اعتنى عناية شديدة بالمعاملات والأخلاق إذ إن عدد آيات المعاملات يفوق الألف والنصف، بينما عدد آيات العبادات يتجاوز المائة وبضع العشرة على اختلاف بين العلماء.
وذهبت متوكل بناء على ذلك إلى أن المقصد هو تطهير داخل الإنسان بهذه العبادات وتزكية نفسه وتهذيب أخلاقه وتحسين معاملاته، مردفة أن العبادات في الإسلام إنما شرعت لما تحدثه من أثر طيب في المعاملات، فهي توجه السلوك وتقومه وتغرس في النفوس التقوى والاستقامة والصلاح، وهذا ما يؤكده الحديث النبوي الشريف “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” وتشير إليه آيات كثيرة منها قوله تعالى: فأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وقوله تعالى: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها.
فالمقصد الأسمى من الصلاة والصيام والزكاة -تقول متوكل- هو تخليص النفس من الرذائل والقبائح والمنكرات وتقوية الإيمان وتحقيق التقوى والرقي في مدارج الإيمان.
وذكرت متوكل ما أورده الإمام الغزالي حيث قال: “الصلاة والصيام والزكاة والحج وما أشبه هذه الطاعات من تعاليم الإسلام هي مدارج الكمال المنشود”.
وأشارت إلى أن حمل أمانة الدعوة والتبليغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشر بشارة الإسلام وتطبيب المجتمع؛ مهمة جليلة يلزمها من الأخلاق وحسن المعاملة القدر الكثير، وقد جاء في قوله تعالى: وقولوا للناس حسنا.
وفي شرحها للمراد من القول الحسن ذكرت ما قاله الإمام السعدي رحمه الله: “ومن القول الحسن أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وتعليمهم العلم وبذل السلام والبشاشة وغير ذلك من كل كلام طيب”.
ولما كان الإنسان لا يسع الناس بماله وفق ما قالته متوكل، أمِر بأمر يقدر به على الإحسان إلى كل مخلوق وهو الإحسان بالقول، ومن ذلك النهي عن القول القبيح للناس كافة لقوله تعالى: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن.
وأضافت قائلة: ومن أدب الإنسان الذي أدب به الله سبحانه عباده، أن يكون نزيها في أقواله وأفعاله غير فاحش ولا بذيء ولا شاتم ولا مخاصم، بل يكون حسن الخلق واسع الحلم صبورا على ما يناله من أذى الخلق امتثالا لأمره تعالى ورجاء لثوابه.
فهي دعوة صريحة إلى حسن معاملة الناس والتخلق بجميل الأخلاق وتملك النفس والصبر على مخالطة الناس، تقول متوكل، مردفة أن هذا الصبر نابع من قلب محب وليس مجرد مجاملة لفظية ومداهنة. وهنا يربط الإمام ابن عاشور بين ما ينطق به اللسان وما يعتقده القلب قائلا: فهم إذا قالوا للناس حسنا فقد أضمروا لهم خيرا، وذلك أصل حسن معاملة الخلق وتلك هي حقيقة الإيمان ما يعتقده القلب يصدقه العمل.
واسترسلت موضحة أن من حسن المعاملة أيضا الرفق ولزوم اليسر، وهي من مواصفات عباد الرحمن، ولقد قال الله تعالى: وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما.
وقالت إن المشي هنا هو مخالطة الناس كما قال أبو إسحاق الزجاج؛ يمشون عبارة عن تصرفاتهم في معاشرة الناس، فعُبِّر عن ذلك بالانتقال في الأرض، وصفة هذه المخالطة؛ الهون ويراد به السكينة والرفق واللين وليس المهانة والضعف.
وأوردت ما قاله ابن عطية الأندلسي، هونا بمعنى أمره هون أي لين حسن، وقال مجاهد: بالحلم والوقار. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: بالطاعة والعفاف والتواضع. ويتضح أن الاتصاف بهذا الخلق هو ثمره العبادة والوقوف الدائم بين يدي الله سبحانه، فعمل الليل يظهر ثمره بالنهار.
وأضافت متوكل أن هذا التحلي بكمال الأخلاق وجميل الأدب مع الناس تجلٍّ لاستقامة السر وعبودية الليل. وبالوقوف مع السنة النبوية نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكد ما جاء به القرآن من الدعوة إلى الرفق والإحسان إلى الناس، فقد قال في وصية جامعة لأبي ذر رضي الله عنه: “وخالق الناس بخلق حسن”، أي عاملهم وعاشرهم بخلق وسجية حسنة. كما جاء في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم تكشف عنه كربا أو تقضي عنه دينا أو تطرد عنه جوعا”.
ووضحت أن إدخال السرور وكشف الكربة وقضاء الدين ومنع الجوع أعمال جليلة ترفع الضيق والمهالك النفسية والاجتماعية والانكسار عن الناس وتبث فيهم الثقة والأمان وتبشرهم بالفرج. لهذا أحب الله هؤلاء. وتلك منزلة عظيمة فمن أحبه الله أحبه أهل السماء والأرض.
وأشارت متوكل إلى أن من ثمرات نفع الناس وحسن معاملتهم؛ أن كريم الخلق يحرم الله عليه النار ويرفع قدره، فإن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ألا أخبركم بمن يحرم على النار وبمن تحرم عليه النار على كل قريب هين سهل”.
تلك بشارة لكل من كان حسن الخلق مع الناس -تقول متوكل- موردة ما قاله أبو الحسن علي القاري؛ القريب من الناس؛ أي بمجالستهم في محافل الطاعة وملاطفتهم قدر الاستطاعة. سهل؛ أي في قضاء حوائجهم ومعناه أنه سمح القضاء والاقتضاء سمح البيع سمح الشراء.
ووضحت أنه هكذا ربّى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة على حسن المعاملة وطيب الأخلاق مع خلق الله جميعا، وتشربوا منه صلى الله عليه وسلم معاني الرحمة والرفق في كل شيء وغرس فيهم جميع الخصال في القول والعمل، وحدهم على حسن المعاشرة مع الناس، والتلطف بهم وإنزالهم منازلهم والتودد إليهم والصبر على أذاهم ومعاملتهم بالود والرحمة واللين وإفشاء السلام.
وأوضحت متوكل أنه عليه الصلاة والسلام أوصى بالبر والإحسان إلى الوالدين والأهل والولد والجار والرحم. فهذا سيدنا جعفر بن أبي طالب يتحدث بلسان المهاجرين الأولين إلى الحبشة عندما سألهم ملكها عن الإسلام قال؛ “كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الرحم ونسيء الجوار”، فقه سيدنا جعفر وسائر الصحابة رضوان الله عليهم أن قطع الرحم وسوء الجوار من أمور الجاهلية، وأن الإسلام جاء ليخرج الناس من ظلماتها بدعوتهم إلى حسن الجوار وصلة الرحم وإكرام الضيف. وجعل هذه المعاملات برهان صدق الإيمان بالله واليوم الآخر لعظم شأنها عند الله عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه”.
واعتبرت متوكل أن الصحابة الكرام رضي الله عنهم، تعلموا هذه المعاني الجليلة بصحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من حاله وسلوكه وأخلاقه الكريمة التي أثنى عليه الله سبحانه وتعالى بها بقوله: وإنك لعلى خلق عظيم.
فقد تعلموا أن أساس الدين وقوامه، هو الإحسان إلى خلق الله وجلب الخير إليهم وإسعادهم وإدخال السرور على قلوبهم وتفريج كربهم وحفزهم على ذلك بالأجر والثواب والقرب منه يوم القيامة.
وجعل أفضل الناس لَمّا سُئل عن ذلك؛ كل مخموم القلب صدوق اللسان، ومخموم القلب كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم هو النقي التقي الذي لا يتم فيه ولا بغي ولا حسد.