“من كرم الرب عز وجل أنه يَعْرِضُ علينا فضله كل ليلة” 1 حيث “ينزل ربنا إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: “من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأُعطيه، من يستغفرني فأغفر له؟” 2، “فلا ينال من ذلك الفضل إلا الأيقاظ الذاكرون الداعون” 3، “أنعم به من رب كريم عظيم ينزل للعباد، يا حسرة على العباد، ناموا ومنادي الفلاح لا ينام!” 4.
والله “جلت عظمته فائضُ الكرم رحيمٌ بالخلق يحب من يدعوه ويغضب على من لا يدعوه” 5، كما جاء في الحديث: “من لم يسأل الله يغضب عليه” 6.
ولئن كان الثلث الأخير من الليل سائر العام وقتا مباركا حريا بالاستجابة، فإنه في ليالي رمضان، بعد فرضية الصيام، نال الفضل والبشارة، بقوله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ 7.
لذلك كان من فضل الله على عباده أن من عليهم بنفحات رمضان المباركات، ربح بيع من اغتنمها، بل قد لا يشقى أبدا بعدها، إنه شهر الدعاء، وشهر مميز عن باقي الشهور كلها، وأيّامه المعدودات مفضلة عن سائر الأيام بنهارها ولياليها، وساعاته ودقائقه، بل كل أنفاسه وليلة القدر عطايا ربانية لا توجد في غيره.
والدعاء عبادة تصل العبد بربه الذي قال: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ 8، ضمان للإجابة لمن كان وصفهم التذلل والافتقار والفاقة والاضطرار وشدة الحاجة، قال عز وجل: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ 9، ولم يستنكفوا عن عبادته ودعائه خوفا من وعيده حين قال: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ 10.
خطاب رباني رحيم يخاطب أعماق النّفس وشغاف القلوب، وكأنه يقول للصائم وقد أنهك الجوع كيانه، وأثقل العطش لسانه، وتغير ريح فمه، وذبلت عيناه: تلذذ بمناجاة ربك، وأبشر بإجابة دعائك، وإنه لغاية “الإكرام من اللَّه تعالى لعبده، وإغرائه في دعائه، وشد للهمم إليه” 11، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنَّ ربَّكم حَييٌّ كريمٌ، يستَحي مِن عبدِهِ إذا رفعَ يدَيهِ إليهِ بدعوَةٍ أن يرُدَّهُما صِفرًا ليسَ فيهما شيءٌ” 12، أنعم به وأكرم من حياء !”صفة كمال تليق به، ليس كحياء المخلوقين الذي هو تغير وانكسار، فإن حياءه تعالى كرم، وبر، وجود، وجلال” 13.
إنه الدعاء، “منجاة في الدنيا والآخرة، الدعاء في الرّخاء عدّة ليوم الشدة، الدعاء سلاح المؤمن” 14. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تعجزوا في الدعاء، فإنه لن يهلك مع الدعاء أحد” 15، وقال أيضا: “من سرَّه أن يستجيب الله له عند الشدائد والكُرَب فليكثر الدعاء في الرخاء” 16، وقال في حديث آخر: “الدعاء سلاح المؤمن، وعماد الدين، ونور السماوات والأرض” 17.
ومن تمام كرمه وفضله على عباده ألا يرد دعاءهم دون إجاب، خاصة في شهر رمضان، الشهر العظيم، فيه الصوم والفرح به، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “قال الله: كلُّ عملِ ابن آدمَ له إلا الصيام؛ فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنَّة، وإذا كان يومُ صومِ أحدكم، فلا يرفُثْ ولا يصخَبْ، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتَله، فليَقُلْ: إني امرؤ صائم، والذي نفسُ محمد بيده، لخُلُوفُ فمِ الصائم أطيبُ عند الله من ريح المسك، للصائمِ فرحتانِ يفرحهما: إذا أفطر فرِح، وإذا لقِي ربه فرح بصومه” 18.
وليس عبثا أن يضيف سبحانه الصيام إلى ذاته، بل هي “إضافة تشريف وتكريم… عبادة لم يعبد بها غير الله سبحانه، كل العبادات قد عبدت بها الآلهة المزيَّفة، والأصنام التي عبدها المشركون على مر العصور” 19، إلا الصوم فهو لله وحده.
وفيه ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر. ليلة القدر خير من ألف شهر 20، روى البخاري ومسلم، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه” 21.
وما كانت هذه الليلة العظيمة أن تمر بدون دعاء وإلحاح في الطلب، فقد روى أحمد، وابن ماجة، والترمذي – وصححه – عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: “قلت: يا رسول الله. أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: قولي: “اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني” 22.
ولنوال فضل هذه الليلة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم “يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره” 23، وتبعه أصحابه إذ كانوا يشدون مآزرهم ويحيون لياليهم ويوقظون ذويهم.
بل كان يعتكف فيها ويرغب أمته في اعتكافها بقوله: “فمن أحبَّ منكم أن يعتكف فليعتكف” 24 وذلك تحريا لهذه الليلة وفضلها، فعن أمنا عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان” 25.
إنه رمضان، لو علمنا ما رمضان لتمنينا أن تكون السنة كلها رمضان، فيه يتضاعف ثواب الصدقة وكل القربات، بل إن لله عتقاء من النار كل ليلة.
ليس هذا فحسب، فهو شهر المواقف والعز والبطولات والملاحم والانتصارات، ولنا عبرة في بدر، ألم تكن عجائبها في رمضان؟ ألم يسقط رداء النبي صلى الله عليه وسلم من علا ظهره وهو يستغيث ربه بتحقيق الوعد إلا في حر ونقع وظمإ وجمع رمضان؟
روى البيهقي من حديث علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – قال: “لما كان يوم بدر قاتلت شيئاً من قتال، ثم جئت مسرعاً لأنظر إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما فعل، قال: فجئت فإذا هو ساجد يقول: “يا حي يا قيوم، يا حي يا قيوم” لا يزيد عليها، فرجعت إلى القتال، ثم جئت وهو ساجد يقول ذلك، ثم ذهبت إلى القتال، ثم جئت وهو ساجد يقول ذلك، فلم يزل يقول ذلك حتى فتح الله عليه” 26.
وروي من حديث ابن عباس قال: قام النبي -صلى الله عليه وسلم -، فقال: “اللهم ربنا أنزلت علي الكتاب، وأمرتني بالقتال، ووعدتني بالنصر، ولا تخلف الميعاد!” 27، فأتاه جبريل – عليه السلام – فأنزل الله: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ *بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ 28.
وهو شهر مدارسة القرآن، والجود والكرم على الآل والأهل والصحب والخلان، لقد “كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجودُ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلةٍ في رمضان، حتى ينسلخ، يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل عليه السلام، كان أجودَ بالخير من الريح المرسلة” 29.
يقول ابن الجوزي رحمه الله: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجودُ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل”، الجود: كثرة الإعطاء، وإنما كثر جوده عليه السلام في رمضان لخمسة أشياء:
· أحدها: أنه شهر فاضل، وثواب الصدقة يتضاعف فيه، وكذلك العبادات، قال الزهري: تسبيحة في رمضان خيرٌ من سبعين في غيره.
· والثاني: أنه شهر الصوم؛ فإعطاء الناس إعانة لهم على الفطر والسحور.
· والثالث: أن إنعام الحق يكثر فيه؛ فقد جاء في الحديث: أنه يزاد فيه رزق المؤمن، وأنه يعتق فيه كل يوم ألف عتيق من النار، فأحبَّ الرسولُ أن يوافق ربه عز وجل في الكرم.
· والرابع: أن كثرة الجود كالشكر لترداد جبريل إليه في كل ليلة.
· والخامس: أنه لما كان يدارسه القرآن في كل ليلة من رمضان زادت معاينته الآخرة، فأخرج ما في يديه من الدنيا.” 30.
وختاما أقول: ليس عبثا أن يذكر الدعاء عقب آيات الصّيام حين قال الله عز وجل: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ[31]، بل في ذلك إشارة بليغة إلى أن الصائم في رمضان مرجوة دعواته، فما عليه إلا اغتنام سائر أيام الشهر ولياليه في الدعاء خاصة عند الإفطار.
وهي إشارة كذلك إلى أن الدّعاء المظهر الحقيقي للعبودية لله تعالى، قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: “ليس شيء أكرم على الله من الدّعاء” 31، فهو دفع للبلاء قبل نزوله، ثم سبب في رفعه بعد نزوله، وبه تنشرح الصدور وتتنزل البركات وترفع الدرجات وتغفر الزلات وتقضى عظام الحاجات، قال سبحانه: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ 32، فتعالوا بنا أخي أختي نحرص على الدّعاء في أيّام الدّعاء.
[2] رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة.
[3] ياسين عبد السلام، الإحسان: 1، ص: 245.
[4] نفسه، ص: 245.
[5] نفسه، ص: 245.
[6] رواه الترمذي رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] البقرة، الآية: 186.
[8] البقرة، الآية: 186.
[9] الأنبياء، الآية: 90.
[10] غافر، الآية: 60.
[11] أبو عبد الرحمن ماهر بن عبد الحميد بن مقدم، شرح الدعاء من الكتاب والسنة، شرحه: ماهر بن عبد الحميد بن مقدم صححه وخرّج أحاديثه وقدم له مؤلف الأصل، مطبعة سفير، الرياض توزيع: مؤسسة الجريسي للتوزيع والإعلان، الرياض، ص: 22.
[12] محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضحاك، الترمذي، أبو عيسى (المتوفى: 279هـ)، الجامع الكبير -سنن الترمذي، المحقق: بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي -بيروت: 1998 م، الحديث رقم: 3556 ج: 5، ص: 448. حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ وَلَمْ يَرْفَعْهُ.
[13] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين المؤلف: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ) المحقق: محمد المعتصم بالله البغدادي الناشر: دار الكتاب العربي -بيروت الطبعة: الثالثة، 1416 هـ -1996م ج: 2، ص: 250.
[14] ياسين عبد السلام، الإحسان: 1، ص: 246.
[15] أخرجه ابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه من حديث أنس. انظر الإحسان: 1.
[16] أخرجه الترمذي والحاكم بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة، انظر الإحسان: 1.
[17] أخرجه الحاكم وصححه عن أبي هريرة أن رسول الله، انظر الإحسان: 1.
[18] محمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري الجعفي، الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، صحيح البخاري، المحقق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، الطبعة: الأولى، 1422ه، ج: 7، ص: 164.
[19] كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، يوسف القرضاوي، مقال الكتروني: https://www.al-qaradawi.net/node/3403.
[20] القدر، الآية: 2/3.
[21] صحيح البخاري، ج: 3، ص: 45.
[22] أخرجه الترمذي (3513)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (7712)، وابن ماجه (3850)، وأحمد (25384) باختلاف يسير https://www.dorar.net/hadith/sharh/116980.
[23] مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري (المتوفى: 261هـ)، المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، المحقق: محمد فؤاد عبد الباقي الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت، ج: 2، ص: 832. رق الحديث: 1175.
[24] صحيح مسلم، متفق عليه واللفظ لمسلم، ج: 2، ص: 825.
[25] صحيح البخاري، متفق عليه واللفظ للبخاري، الحديث: 2017، ج: 3، ص: 46.
[26] أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي (المتوفى: 458هـ)، دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، دار الكتب العلمية -بيروت الطبعة: الأولى -1405 ه، ج: 3، ص:49.
[27] محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ)، جامع البيان في تأويل القرآن، المحقق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة الطبعة: الأولى، 1420 هـ -2000 م، ج: 13، ص: 410، الحديث رقم: 15736.
[28] آل عمران، الآية: 124-125.
[29] ابن حجر العسقلاني – أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري، دار الريان للتراث، 1407هـ / 1986م، ج: 8، ص: 659.
[30] جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)، كشف المشكل من حديث الصحيحين، المحقق: علي حسين البواب الناشر: دار الوطن – الرياض، ج: 2، ص: 312.
[31] ناصر الدين الألباني، كتاب صحيح وضعيف سنن الترمذي، من إنتاج مركز نور الإسلام لأبحاث القرآن والسنة بالإسكندرية، ج: 7، ص: 370.
[32] غافر، الآية:60.