في وداع الشيخ أبو حذيفة أحمد رفيقي: مدرسة الصبر الجميل

Cover Image for في وداع الشيخ أبو حذيفة أحمد رفيقي: مدرسة الصبر الجميل
نشر بتاريخ

صبيحة يوم الخميس 13/03/2014، عندما كان الحاج أحمد رفيقي – الشهير بالشيخ أبو حذيفة – يسدل جفنيه، الإسدال الأخير، ولسانه يلهج مستقويا بطلب الغفران من الله: يا رحيم يا غفور، كانت أسارير محياه تنشرح بابتسامة وضاءة، لما كانت آخر صورة أخذها من الدنيا، تلك التي ارتوت بها مآقي عينيه، وهو يرتحل نحو الرفيق الأعلى، هي صورة ابنه الوحيد، الذي كان ماثلا بظله فوق رأسه، يتلو القرآن الكريم ويردد كلمة التوحيد، الشيخ أبو حفص محمد عبد الوهاب رفيقي، الابن الذي قاسى من أجله أبوه الأهوال كما لم يقاسها أب مثله، أهوالا ساقته إلى تجرع مرارة المحن والعذابات معه، عذابات الزنازن والاعتقالات، والتي ارتشفاها معا في آن واحد، ومن كأس واحدة، ولم يكن للراحل الفقيد أن يتحمل ما تحمله سوى من أجل أن تقر عينه في هذه اللحظة الأخيرة من حياته، بتوديعه قرة عينه على النحو الذي صبت إليه نفسه، وقد قرت عينه حقيقة، وأدرك مناه ومهجته، وهو يترك ابنه على ما هوت نفسه وتمنته عليه من مثال ومنال، عالما عاملا صالحا، حافظا لكتاب الله، مبتلى في سبيل الله، سليم الموقف والدين والفكر والعقيدة.

لا نقول رزئت الحركة الإسلامية أو خسرت، بافتقاده بينها في عالم الأحياء، ولكن نقول ربحت الحركة الإسلامية، وربحت الوطنية الراشدة، علما من أعلامها، ستظل مخلدة في تراث العمل الإسلامي، سيرته، ومواقفه في الصمود الأسطوري على البلايا والمحن والسجون، ومناقبه في الثبات على الموقف الرشيد والاعتقاد السديد، ومحامده في خدمة الناس ونجدة المرضى والجرحى والمعطوبين، والتي سارت بذكره في تعدادها الركبان، سواء في وطنه المغرب، لما كان نشيطا كخلية نحل في طاقم التمريض بمستشفى ابن رشد، وكان ينفق الجهود الجبارة والمساعي الحثيثة ليل نهار في تجهيز هذا المستشفى بأحدث الآليات التي أنقدت حياة كثير من المرضى من ذوي الفاقة والعوز أو من غيرهم ممن انتفعوا من تلك الآليات النفيسة الطلب… أو خارج أرض وطنه، في أفغانستان، لما هاجر إليها مجاهدا، حينما هبت العرب والمسلمون من كل حدب وصوب لنصرة شعب مسلم، كانت تفتك به طائرات ودبابات وقنابل الجيش السوفياتي، فأصبح الشيخ أبو حذيفة في تلك الديار، أشهر من نار على علم في مستشفيات الحرب، يعدل أكثر من عشرين طبيبا فيما يقوم به لمداواة الجرحى والمصابين في ظروف كان يعز فيها الدواء وتندر فيها الوسائل والإمكانيات.

خلال سبعينيات القرن الماضي، وبعد أن قرفت نفس الفقيد الشيخ أبو حذيفة مما كانت تعج به الساحة من جعجعة نقابية وسياسية عديمة الجدوى، استقر خياره على اتباع نهج الحركة الإسلامية، لكن دونما تلون أو تحزب، فحيثما كان الداعي يدعو إلى الإسلام وصحيح الدين، كان ثمة وجهته ومجلسه، ولو كلفه ذلك السفر بعيدا لمجالسة عالم أو مصاحبة داعية ومصلح.

ولما رزقه الله بابنه الوحيد، بعد طول انتظار، محمد عبد الوهاب الشهير بأبي حفص، كان له منهج تربوي آخر غير الذي يسلكه الآباء مع أطفالهم، من تراخ، ودغدغة عواطف، ودلال، منهج صارم كان يبتغي من خلاله تخريج رجل فذ من رجالات العلم والدين والخلق القويم، ومن أشاوس الوطن الذين تنتفع بهم البلاد والعباد، إذ فرض على طفله الوحيد، العيش بعيدا عن حضن الأبوة والأمومة، في قرية نائية من أقاصي البلاد في إحدى الزوايا بمنطقة أكدز، والتي كانت تختص بتحفيظ القرآن للأطفال، وفرض بذلك على نفسه الحرمان الصارم من الاستمتاع بوحيده بين أحضانه، وهو الذي انتظره وأمه بعد طول رجاء، ولم يكن ليسمح لنفسه ولا لأمه برؤيته، سوى ما بين فترة وأخرى عندما يسافران لملاقاته، ولم يستمتع باحتضانه وإعادته إلى القرب منه إلا عندما بلغ الصبي شأوا في حفظ القرآن.

ثم جاءت المرحلة الثانية، مرحلة المزاوجة بين التعليم الرسمي المدرسي، والتعليم الأصيل في مدارس تلقين العلوم الشرعية، ومرة أخرى تحل صرامة الإبعاد من أجل تلقي الابن العلوم الشرعية، في إحدى المدارس الخاصة بمدينة فاس، حيث ستنغمس طفولة الابن باختيار والده في برنامج مكثف من التلقي المزدوج.

ولما اشتد عود الفتى، وتعطش للحضن الأبوي، كان الفقيد قد حزم حقائبه، مستجيبا، لنداء النصرة والغوث للشعب الأفغاني الذبيح، بالآلة الحربية العملاقة، لأعتى جيش في العالم، الجيش الأحمر الشيوعي الذي اجتاح الأرض واستباح الأرواح والأعراض، خلال ثمانينيات القرن الماضي.

ولم تعد الدار البيضاء هي موعد التزاور والتواصل بين الابن وأبيه، بقدر ما أصبح لزاما على الابن أن يسافر عبر الأجواء إلى أراضي باكستان وأفغانستان، لكي ينهل الأب في انفراجة ضيقة من الوقت خلال استراحة المحارب، من دفقات العاطفة الأبوية والوشيجة الأسرية ومشاعر صلة الرحم.

ولما انتصر الجهاد الأفغاني على الجيش الباغي، وقفل الفقيد راجعا إلى أرض الوطن، ليقطع مع شطر من الحياة، كانت فيه قساوة البعد عن الأهل والولد، مؤثرة لديه إيثار واجب البذل والكفاح على متعة العيش في كنف الهناء العائلي، ولذة البساطة في الدعة ووداعة التفكير، وكان الشيخ أبو حفص، قد قطع هو أيضا مع فترة الاغتراب من أجل التحصيل العلمي خارج الوطن، أصبح للشيخ الفقيد موعد آخر مع المحن والشدائد والابتلاءات في الشطر الآخر من حياته، إذ حلت سنة 2001، وحلت معها مطاردة ابنه الشيخ أبو حفص بالاعتقال تلو الاعتقال.

فالشجرة التي حرص الشيخ الفقيد على سقيها من أنهار العلم والمعرفة وحفظ القرآن والسمت الإيماني والشهامة والمروءة والصدق، أينعت ثمارها بانخراط الابن عبد الوهاب في صف الدعاة، وامتشاقه سلاح الكلمة الحرة الأبية، واستشعاره الحدب على قضايا المسلمين في العالم الإسلامي الذي ما انفك يرزح تحت حوافر بطش الاستكبار العالمي والقوى المتجبرة.

فكانت النتيجة الحتمية هي أداء هذا الابن ضريبة ذلك الانخراط وتكلفة ذاك الاختيار، وكان من تداعيات تلك النتيجة الحتمية، أن يتجشم الأب الشيخ الفقيد هو أيضا مكابدة تبعات اختيار الابن، بكل الدعم المعنوي والعاطفي والمادي لفلذة كبده الذي انطوت عليه زنازن الاعتقال.

في تلك الفترة الكئيبة، كنت شاهدا قريبا على معاناة الرجل، جراء الزج بابنه في غياهب السجون مرة ثانية، ولما يمض على الإفراج عنه من سابق اعتقاله سوى زمن محدود، إذ كنت محاميا للشيخ أبو حفص ورفيق دربه الشيخ حسن الكتاني، وكنت والفقيد نستشرف آفاق الإفراج عنهما نظرا لفراغ القضية من كل ما يدعو إلى القلق، غير أن تلك الآمال راحت تتبخر أدراج الرياح.

فقد ضربت الصاعقة بيت آل رفيقي، وابتلعت دوامة الاعتقال الشيخ المسن المريض الواهن المكلوم على ابنه، وبعدما كان همي وجهدي – كدفاع – منصبا على افتكاك الابن من أغلاله، راحت هذه الأغلال تتخطف الأب من بين يدي، بما استدعى تعاظم هذا الهم في الدفاع، أمام ما كنت أستشعره في صدري من جسامة المأساة، مأساة أسرة تفرقت بها السبل بين السجون.

غير أن ما كان في نظري جسيما ومفزعا ومهولا، وفي صدري أليما ومحزنا، كان في صدر الشيخ الفقيد هينا يسيرا، وبردا وسلاما، لما كان يرشح به هذا الصدر المؤمن من صبر جميل ورضا بقضاء الله واستسلام لمشيئته، واحتساب الأمر ابتلاء إلهيا، وتكلفة من تكاليف الاختيار الإيماني.

كان ذلك قبل وقوع كارثة 16 ماي 2003، وبعد الكارثة الأليمة، تبدلت الحسابات، واندثرت التوقعات، وانقلبت التكهنات القانونية رأسا على عقب، إذ أصبح الاعتقال حملة تأتي على الأخضر واليابس، وعاصفة ثائرة لا تبقي ولا تذر على مشبوه أو بريء، تحت غطاء الارتياب الأمني والاستباق الوقائي.

وفي لجة هذه العاصفة المدمرة وجد الشيخ الفقيد نفسه، في زنازن سجن عين بورجة، وقد سيق إلى جواره، من بعده، محاميه الذي كان في لحظة من فسحة الأمل، يكل إليه بين يديه قضيته وقضية ابنه الشيخ أبو حفص.

ولقد رأيتني في تلك الأيام الموجعة، أجاور في زنزانتي رجلا من صناديد الرجال صمودا وبلاء وتحملا، رجلا مكابرا وهو في طاعن السن، وواهن الجسم، وفاتك الأمراض، لا يتأوه، ولا يتضور، ولا يشكو بثه وحزنه إلا إلى الله عز وجل.

وفي تلك الصائفة من شهور الحر والقيظ، يونيو، يوليوز، غشت، والذي تتحول فيه الزنازن ثقوبا خانقة منحوتة على صخرة متلظية، ولما حيل بينه وبين التواصل معي، كما هو متاح لعموم نزلاء السجن، أبدى لسجانيه من العناد الأسطوري، ما لا يطيقه حتى أولو القوة والفتوة من الشباب، إذ أغلق عليه باب زنزانته المتسعرة حرارة، وأضرب عن الخروج ثلاث أشهر متوالية في عز الصيف، لا يخرج إلا في الزيارة الأسبوعية، وكان لا يرى إلا منشغلا بمصحفه في قراءة القرآن أو منهمكا في أذكاره وأدعيته، أو قائما متبتلا في صلاته، مما أخضع سجانيه لهيبته، وحملهم على إكباره والانبهار بتحمله وصبره في إشفاق وعطف.

وإن أنس فلن أنسى ذكريات من الفجيعة والحزن الذي اعتصرني في تلك الليلة التي عاد فيها الشيخ رحمة الله عليه من المحكمة في ساعة متأخرة، وقد قضي في حقه بعشر سنوات سجنا، ولم يشفع له أمام قضاته، اشتعال رأسه شيبا، ولا وهن عظمه، ولا ثقلة مصابه في ابنه، ولا فراغ اتهامه الأجوف من الوسائل والبينات.

في تلك الليلة كان السجن ينتحب كآبة وقتامة، وصمتا رهيبا ووحشة كوحشة المقابر، إذ لم يكن ثاويا بهذا السجن في تلك الليلة سوى سجينان: الشيخ أبو حذيفة ومحاميه عبد الله لعماري، حيث كان السجن قد أفرغ عن بكرة أبيه من كل نزلائه، ورحل سجناؤه إلى سجون أخرى، في انتظار تحويل عين بورجة إلى معسكر اعتقال لمئات من معتقلي ما سمي بقضايا أحداث 16 ماي.

وكان الصمت رهيبا لا يقطعه إلا ارتجاج الأبواب وصفير الريح، ومواء القطط التي كانت كأنها النياحة على الأموات، وتصايح الجرذان التي خرجت جائعة بالعشرات تعبث بأكوام القمامات المتراكمة في الساحات، بعد إخلاء السجن من ساكنيه.

كل ذلك لم يفت في عضد الشيخ ولم يزحزحه قيد أنملة عن اليقين في الله والرضا بقدره حلوه ومره، وبنفس العزيمة والثبات والتماسك الفولاذي قابل الحكم الذي صدر في حق ابنه الشيخ أبو حفص عندما أدين بثلاثين سنة سجنا بتاريخ 25/09/2003.

رحم الله الشيخ أبو حذيفة، الكظيم الصدر على النصب والعذاب، والرفيع القدر في الرضا والثبات، والجبل الأشم الذي لم تهده العواصف ولا الزلازل، وانهدت على صخرة صبره الجميل النوائب والأنواء.