تدبر في قول الله عز وجل: قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ۚ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (سورة لأعراف، الآية 129).
هناك قواعد عامة وسنن مشتركة للتغيير السياسي والاجتماعي والحضاري العام، تحدث عنها القرآن الكريم والسنة المطهرة وكشفت عنها الخبرة البشرية على مر السنين. وتضبط هذه القواعد التغيير في الحياة البشرية الفردية والجماعية وتوجهه وتتحكم في سيرورته وإيقاعه، وكل منشغل بالتغيير السياسي والاجتماعي معني بالبحث عنها واستيعابها وتكييفها مع خصوصيات مجتمعه ومشروعه. ونركز في هذه العجالة على قاعدتين مهمتين، تحدث عنهما القرآن الكريم في معرض تفصيله لتجربة أحد أنبياء الله الكرام، وقيادته لمشروع تغييري عظيم، ومعاناته مع قومه الذين جاء لإنقاذهم من براثين الذل والطغيان.
*- الثقة في الله عز وجل:
والإيقان بأن أي تغيير يحدث في الوجود هو من صنعه، وهو جل وعلا من يوقعه. وقد علمتنا قصة سيدنا موسى عليه السلام هذه القاعدة ورسختها، خاصة في مواجهة الظلم والطغيان، فقد جاءه قومه ذات يوم منتفضين ضده ومنكرين فضل الله عليهم، ومستعجلين التغيير والنصر على العدو فرعون، فقال الله عز وجل على لسانهم: قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ۚ. فأجابهم النبي الصالح عليه السلام الموقن بربه: قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ(سورة لأعراف، الآية 129). هذا الجواب يرسخ قاعدتين أساسيتين في التغيير هما قاعدة التفويض لله عز وجل وقاعدة الإعداد الجيد لما بعد سقوط الباطل. ولا يقصد بهذا التواكل وعدم استفراغ الوسع في خوض معركة إسقاط الطغيان، بل على العكس من ذلك يجب بذل أقصى ما يمكن في هذا الاتجاه، ألم يقل الله تعالى: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم، ثم ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اعقلها وتوكل على الله”. لكن يجب أيضا، إحداث التوازن بين الاشتغال من أجل الحاضر والتدبير للمستقبل.
*- الإعداد الجيد للمستقبل:
قد تركز المشاريع التغييرية جهودها الكلية وتستنفر إمكاناتها الكاملة لإسقاط أنظمة الطغيان، وإزالة عناصر قوتها ونسف أسس دولتها، حتى إذا انهارت، وكل طغيان لا بد أن ينهار، وجاءت مرحلة التمكين لأصحاب المشروع التغييري، غرقوا في المرحلة الانتقالية ووقفوا عاجزين أمام هول الإرث الفاسد للاستبداد والمتطلبات الملحة للمرحلة الجديدة وتطلعات الشعوب وآمالها. وقد علمتنا التجربة البشرية القريبة والقديمة أن الإعداد للمستقبل لا يقل أهمية وإلحاحا من الاشتغال بتقويض دعائم الطغيان القائم. وأكثر ما يلح في الإعداد للمستقبل هو تهيئة الإنسان المتشرب لقيم المشروع التغييري والمؤمن به والأمين عليه والقادر بخبرته على تحقيق مقاصده والذي تحول تربيته وخلقه الراسخ دون الانقلاب عليه والوقوع في فخ الشهوة والسلطة، قال تعالى على لسان سيدنا موسى عليه السلام: ويَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ.
وقد تحققت نبوءة هذا الرسول العظيم، وأهلك الله جلت قدرته فرعون وجنده وجعلهم عبرة لكل طاغية، ومكن لبني إسرائيل في الأرض فأقاموا ممالك، لكن هل كانوا أوفياء للمشروع التغييري العظيم الذي قاده نبيهم موسى عليه السلام والأنبياء من بعده؟ أم أنهم أعادوا إنتاج الطغيان والفساد وصاروا من دهاقنته ورواده؟ التاريخ خير حكم، وفي ذلك عبرة وأية عبرة لكل مناهض للظلم وطامح للتغيير.