عندما نتصفح مصادر التاريخ المغربي، تستوقفنا نصوص تتحدث عن مواقف رائدة للمرأة المغربية، تحتاج طبعا الجهد في استخراجها، لأنها تذكرها باحتشام بالغ للضرورة الحدثية في سياقات مغايرة.
مواقف لم يعرها المؤرخون اهتماما كونهم ذكورا، والمجتمع الذكوري في العرف العربي عبر التاريخ لم يؤرخ إلا لأقرانه من الرواد باستثناء نتف هامشية.
لقد زهدت المصادر التاريخية في ذكر أعمال المرأة لعدة اعتبارات أهمها أنها “ولية”، بالمعنى التنقيصي، لا يصح الحديث عنها. وهي في مجملها نتاج تقاليد بالية تعود جذورها إلى عصور الانحطاط الذي اجتهد إثرها الفقهاء فسجنوا المرأة في بيتها حرصا عليها وخوفا من الفتنة. فسجنت المرأة وغاب حقها الذي جعلها قبل ذلك عنصرا رائدا فاعلا ومؤثرا بآرائه ومواقفه، فحولها إلى كم مهمل يعيش على الهامش، لا يذكر إلا بالتحقير والتنقيص.
في ظل هذا الواقع المرير نالت المرأة المغربية حصتها من هذا الإقصاء، الذي يبدو جليا في الكتابات التاريخية التي تظهر الأدوار النسائية مجرد واسطة لظهور العظام من الرجال الذين يعزى إليهم وحدهم إحداث التغيير الاجتماعي والتطور التاريخي.
هذه الواسطة المهملة كانت جزءا مهما من هذا التغيير، تكالب عليها التاريخ والمجتمع، فغيب أدوارها التي سبقت في بعضها الرجال.
تاريخ مغربنا الأقصى تاريخ مليء بما يشرف، مليء بأمجاد وبطولات صنعتها أيادي رجالية كما صنعتها أيادي نسائية. هو ذلك التاريخ الذي يستحق الفخر به وبأبنائه، وليس كما عهدناه في برامج فصول مدارسنا. تاريخ يستوجب البحث وجمع ما غيبته النصوص، وجمع ما لازال مشفرا بين صفحات مشتتة تدرج بعمومية في مراجع تعطي الأولوية للعنصر الذكوري.
تاريخنا ليس فقط تاريخ الرموز الذين بنوا وشيدوا وأنجزوا دون أن يخطئوا، بل هو تاريخ ساهمت فيه المرأة المغربية ببطولات وأعمال حق لنا أن نفتخر بها وبما سجلت من بصمات على درب الجهاد.
ولعل أصعب مرحلة عاشتها المرأة المغربية هي فترة “الحماية”، التي وضعتها بين مطرقة التخطيط الاستعماري الذي جعل المرأة من أولويات مخططاته لمسخ ثقافتها وتحريف دورها، وبين سندان المجتمع الذي ينظر إليها نظرة تنقيص لا تخرج عن دائرة العورة أو المتعة. مطرقة ملفوفة بزينة الدعوة إلى التحرر الملغوم، وسندان الانبهار والتطلع نحو النجاة.
لكن “الأزمة تولد الهمة” كما يقال، إذ كانت محنة الاستعمار عاملا ستتولد معه بوادر الشعور الوطني الذي اشتركت فيه المرأة مع الرجل، والذي استطاعت معه أن تتغلب على ضعفها، وعلى كل ما ساهم في تكبيلها خلال السنوات الماضية، وعبرت عن امتلاكها ما يؤهلها لأن تكون حاضرة في المجتمع؛ بداية في سنوات المقاومة، حيث قاومت المستعمر بأشكال مختلفة، ثم تلتها أشكال أخرى في التعبير عن ذاتها، مشاركة الرجل في انشغالات وهموم الوطن إلى أن وصلت إلى المشاركة السياسية، وغير ذلك من الاهتمامات التي وصلت إليها بعد نضال طويل انتزعت حقها فيه انتزاعا.
نعم، فقد قدمت المرأة المغربية في هذه المرحلة صورا رائعة في البذل والعطاء، نستأذن الذاكرة المغربية في سرد بعض من أحداث صنعتها يد المرأة دفاعا عن الوطن والهوية، أحداث مرحلة بدأت بعد توقيع معاهدة الحماية في 30 مارس من سنة 1912، عام الفاجعة العظمى التي فقد المغرب إثرها استقلاله.
روائع من أشكال المقاومة تحكيها لنا الوثائق والتقارير التي أنجزها المستعمر، بغير قصد طبعا، لأن الغرض منها كان خدمة أهدافه، وخدمنا بها كذلك من حيث لا يدري. وهي مصادر في نظري أكثر مصداقية، لأننا لا نجد فيها الذاتية والمباهاة، فالمستعمر يحكي عن أحداث شاركت فيها المرأة ويتناولها بنوع من الغلظة، حيث يراها ذلك المخلوق الناقص الذي لا يجيد إلا أعمال البيت والخضوع للزوج، لكنه ينبهر بشجاعتها ويندهش لها، وفي نفس الآن يعبر عن اشمئزازه من كل ما كانت تقوم به تجاههم، وخير مثال على ذلك ما جاء في هذا التقرير:
“هذه الساعة الثانية والنصف بعد الزوال، الصيحات تتعالى من كل ناحية والطلقات النارية أخذت تنبعث من كل مكان، وكل الدكاكين أخذت تغلق أبوابها في سرعة البرق الخاطف، وعلامة أخرى للهيجان أدل على الخطورة مما سبق، تلك زغاريد النساء الحادة المتواصلة ممزوجة بالانفجارات النارية. وعلى ما تدل الزغاريد عند المرأة المغربية؟ لقد اعتدنا قبل هذا الوقت أن نسمع هذا الصوت في الحفلات، ولكنه هل كان وقفا على ساعات الأفراح والسرور؟ وهل كانت تلك الصيحات بساعة الولادة أو الزواج أو أي مناسبة مشابهة؟ لا، بل هي صيحات إنذار بالموت بالنسبة إلينا. نعم تتحول اليوم تلك الزغاريد من بشير بالسعد إلى نعيق الغراب. يا لها من صيحات مشؤومة” (محمد خليل بوخريص، «المرأة المغربية تثبت حضورها عبر تاريخ الكفاح السياسي المسلح»، ضمن مجلة التعاون الوطني).
شهادة ناطقة، ومعبرة عن دور المرأة في الكفاح والمقاومة، يعبر عنها المراسل العسكري الفرنسي لجريدة الصباح الباريزية، حول ما عرفته مدينة فاس من انتفاضة شعبية في أيام فاس الدامية، ومشاركة المرأة فيها، وما قامت به من تحفيز المقاتلين من خلال زغاريدها التي كان لها وقع الصاعقة على نفسية المستعمر، هو موقف بطولي عبرت به المرأة المغربية بكل إصرار وتفان، مباشرة بعد توقيع معاهدة الحماية عام 1912م حيث انطلقت تقذف القوات الاستعمارية من السطوح بالحجارة وبالماء شديد الغليان.
وفي تقرير أعده مراقب قبيلة بني عروس: “عندما كانت دورية الشرطة العسكرية الأهلية تقوم بنزع السلاح من سكان القرية يوم أمس، وقد وقعت حادثة مؤلمة ذهب ضحيتها الضابط خوسي فالديفيا (José valdivia) الذي أطلقت عليه نار بندقيتها امرأة يقال إنها أخت رئيس الثوار المسمى أحميدة الخراز، الذي لقي حتفه في إحدى المعارك التي جرت سنة 1922م بين قواتنا ورجال الشريف الريسوني، وقد تمكنت المرأة المذكورة من الفرار واللجوء إلى ضريح القطب مولاي عبد السلام بن مشيش حيث لم نتمكن من إلقاء القبض عليها” (محمد بن عزوز حكيم، «دور المرأة المغربية في المقاومة بالشمال»، ضمن ندوة علمية دور المرأة المغربية في ملحمة الاستقلال والوحدة).
هذه هي المرأة المغربية، استطاعت أن تدافع عن الوطن بالقول والفعل معا وسط المعارك، وبالمواقف؛ حيث يؤكد ذلك الكولونيل “كباص” فيما رواه في «المحاضرة التي ألقاها بنادي المراقبين بتطاون يوم 5 غشت 1935م تحت Ancdotas de nerestra guerra de pacification (نوادر من حربنا التهديئية): “ويل للرجل الذي كان يتقاعس عن الذهاب إلى الجهاد، ‘حيث كانت المرأة له بالمرصاد، سواء تعلق الأمر بزوجها أو بغير زوجها، فكانت تلبسه لباس النساء، وتنكل به وتسبه، وتنتف لحيته وتحرمه من الطعام والشراب لمدة يومين أو ثلاثة'” (محمد بن عزوز حكيم، «دور المرأة المغربية في المقاومة بالشمال»، ضمن ندوة علمية دور المرأة المغربية في ملحمة الاستقلال و الوحدة).
تستطرد المصادر في سرد أشكال متنوعة من المقاومة النسائية، كالجرأة في اقتحام معسكرات المستعمر؛ أمثال المقاوِمة “فايدة حسن” التي لعبت دورا خطيرا في حرب الريف، بالتجسس على الإسبان، وذلك بتسربها إلى معسكراتهم بلباس إسباني ليسهل عليها الاختلاط بكبار الضباط لكشف خططهم ونقلها إلى المجاهدين في الريف.
كما يسجل التاريخ للمرأة المغربية الكثير من الأعمال التي شاركت بها في الدفاع عن وطنها، كإيقاد النار فوق قمم الجبال إعلانا عن زحف الجيوش الغازية، ودحرجة الأحجار الضخمة في طريق جنود العدو وإرغامهم على التراجع، ونقل السلاح وتخبئته ثم إعادة توزيعه، واستطاعت بذلك إبداع طرق كثيرة تختلف حسب ظروف وعادات كل منطقة.
والقائمة طويلة تستوجب الوقوف عندها بعين متفحصة ومنصفة، عين الحافظية، عين المرأة التي غابت عن التأريخ لتوثق مشاركة المرأة في مجالات شتى، استوقفت بعضها المستعمر إعجابا وأهملتها الاستوغرافية المغربية التي اعتبرت أعمالها مكملة ليس إلا.