برزت لي من فوق سطور المجد و العز والكبرياء.. شامة.
كأنها اللؤلؤ الأبيض المزان في جيد العذراء. فوق رأسها تاج وقار وعلم رفيع وسمت وديع، ولسانها ينطق بالحكمة يعلمني أن أعدّي لهم من القوة ما استطعت وكوني رمزا لهذا الجيل كما كانت هي رمزا لذاك الجيل.
واستهواني فعلها الجميل و”صنعة الرجال” التي أتقنت. واستهواني أكثر قولها الحكيم: “قد يجعل الله الخير كاملا في الشر”. فتجرأت وحملت قلمي لأكتب عن الشريفة بنت الأشراف. من حملت حلما ووضعت علما وكانت سلما.
عفوا سيدتي اقبلي عذري، لكم آلمني أن أجد اسمك وفعلك مهملا بين السطور، فعرفت سر خيبتنا، ودواء عيبتنا.
عذرا سيدتي سأنبش تاريخك لأتعلم منك صنعة الرجال في زمن المحال.
برزت لي من بين سطور مجد هذه الأمة عزيزة قوية.
بطاقة هوية
أنا عالية بنت شريك الأزدية، كنت أسكن المدينة المنورة، زوجي هو أنس الأصبحي، من أتباع التابعين، لما دخل بي لم يعجبه شكلي، كان يريدني بيضاء البشرة وكنت سمراءها، فأنطقني الله بالحكمة وقلت له: قد يجعل الله الخير كاملا في الشر. وعشت معه أيام زواج هنية وكانت لي منه ذرية…
خرج يوما للتجارة وكانت غيبته طويلة. ولما عاد قصد أولا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصادف فيه رجلا إماما حسن العلم والأدب والهيأة، وحتى لا تفوتني الإشارة، زوجي كان عالما مولعا بمصاحبة الأخيار، فانحاز إلى الرجل الإمام قائلا: يا سعد أبويك بك، هل تقبلني صاحبا وضيفا؟! وما كان للإمام الجليل أن يرده، فاصطحبه معه.
ولما وقفا على الباب قال له: يا ابن الأخيار، إذا استأذنت على أهل هذه الدار فقل لهم: “قد يجعل الله الخير كاملا في الشر”.
واقف على الباب يطلب الإذن بالدخول. وكان الباب بابي والدار داري.. فلما سمعت كلمة الحكمة قلت: أسرع وأدخل الرجل فإنه أبوك.
وسعدت وسعد زوجي بذخري في الحياة وذخر هذه الأمة وصنعة يدي: ابني مالك بن أنس إمام دار الهجرة. فهل عرفتم من أنا؟
عرفتك أيتها العالية الغالية، وعرفت معك سر التنوير حين يقول الإمام المرشد: “ينقطع بعد الموت عملها إن لم تخلف ذرية صالحة، إن لم تساهم في بناء الأمة، إن لم توظف كمالها العلمي والخلقي والقلبي في صنع مستقبل أمتها” (1).
عرفتك سيدتي ورأسي ينحني لك إجلالا وإكبارا ولسان حالي يردد: “أمع الرجال دليل وحجة أحالوا إماء الله قواعد في البيوت محجورات عاجزات جاهلات مظلومات؟ كيف فقدت تلك التربية، وماتت تلك الروح؟ كيف قتلت المرأة وأفشلت؟” (2).
مؤمنة عظيمة لمسؤولية عظيمة
تعالي واصبري يا من تؤمنين بالله واقرئي معي بين السطور، سطور مجد هذه المؤمنة العظيمة:
– من منا تستطيع أن تتحلى بالحكمة في ليلة زفافها وأول عهدها بزوجها، زوج غير محب، حكم العقل في لحظة مصير “… فلا يبقى ما يعول عليه ويعتمد إلا الثقة والميثاق الغليظ… وليكون البناء من حجر الاختيار العقلي وحديد الأمانة الإيمانية لا من طلاء الإعجاب بالمظاهر” (3).
ولك أخي الزوج أن تنتقي من بين هذه السطور كل معاني الحكمة و الرحمة لتزين بها حياتك في بدايتها.
– من منا تتحمل مشاق المهنة العسيرة ولقمة العيش المريرة وأن تكون وفية لما قالت، عسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا، وتتحمل البعد الطويل، وتربية الابن الجليل، وتحفظ الغيب، ويا له من حفظ… جهاد ما بعده جهاد “جهاد المؤمنة وحيثيتها في سجل كرامة الإيمان أن تنجب مجاهدين ومجاهدات أقوياء” (4).
– ومن منا أتقنت فن الاستقرار كما أتقنته، وكيف شدت خيمة بيتها بأوتاد الحكمة والصبر الجميل… فنون وفنون… وما خفي في نفسها أعظم وأعظم… والأعظم من هذا أن تهيأ للأمة رجلا عظيما كمثل إمام دار الهجرة الذي قال في حقه العلماء: “لا يفتى ومالك في المدينة”.
– دلت الأم العظيمة ابنها الجليل على بحر العلم، وتلمذته على يد 900 شيخ، فمن منا تستطيع أن تنتقي لابنها شيوخا عظماء، وأي شيوخ؟! أسياد العلم والأدب والحكمة في المدينة المنورة.
لا تفعل هذا إلا عالمة أديبة حكيمة، قال الإمام مالك: “كانت أمي تعممني وتقول لي: اذهب إلى ربيعة الرأي فتعلم من أدبه قبل علمه”… و”قلت لأمي: أذهب فأكتب العلم؟ فقالت: تعال فالبس ثياب العلم، فألبستني ثيابا مشمرة، وعممتني ثم قالت: اذهب فاكتب الآن”… وكانت تطيبه بالطيب وتحممه حتى لازمته عادة الاستحمام والتطيب كلما أتى مجلس العلم فيكون في أحسن سمت وأكمل مظهر وأرقى صورة.
يا له من ذوق رفيع! وأدب رفيع! وهمة عالية!..
“من أخمد تلك الجذوة؟ من أطفأ ذلك النور؟ من هبط بالمرأة من معاني الحياة السامية، النابضة بالقوة، السخية بالعطاء، إلى حضيض واقع الجواري في القصور..” (5).
“فذهبت الراعيات المسؤولات المجاهدات…” وأنسيت عالية أم مالك بين سطور مجد ابنها، واستحيت الأقلام، بل أهملت، الحديث عنها والاعتراف بجميلها كما أهمل “الفقه المنحبس” المرأة وتركها حبيسة جدران عقول تدين للحاكم.. دين الانقياد ومجتمع تحكمه الذهنية الرعوية وصارت المرأة بينهما كما مهملا.
وتساءلت كثيرا، معجبة بهذا البرج الفاضل: “عالية الغالية”، مستعملة عبارة: من منا تستطيع… ومن منا تستطيع… ليس إنكارا للخير بل تأكيدا على أننا نستطيع، ليس ذلك ببعيد، بل هو إيمان راسخ في قلب كل مؤمنة تؤمن بالله وبموعود رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتتعلم على يد الأسياد الذين قالوا: “تصاغ شخصية جهادية تقوى على تحمل المسؤوليات العظام بروح الإخلاص لله عز وجل، وبباعث الشوق إلى الله، وبوازع الخشية من الله. شخصية المؤمن القوي الأمين الذي يرعى حقوق الله، ويقدر المسؤولية أمامه عز وجل حق قدرها” (6).
وبروح الحب في الله سنلتقي بك أيتها “العالية الغالية” في عمل محمود، وفي رابطة الدعاء المأثور. فسلام عليك إلى أن نلتقي بك، إخوانا على سرر متقابلين.. آمين.. آمين. والحمد لله رب العالمين.
(1) عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، ج 2، ص 219.
(2) نفسه، ص 300.
(3) نفسه، ص 169.
(4) نفسه، ص 220.
(5) نفسه، ج 1، ص 76.
(6) عبد السلام ياسين، إمامة الأمة، ص 79.