لا زالت جماعة العدل والإحسان تصنع الحدث السياسي في المغرب، خاصة وأن مبادراتها لا زالت تحظى أيضا بمتابعة الرأي العام والنخبة الوطنية بمختلف تلاوينها، فالوثيقة السياسية التي قدمتها مساء الثلاثاء 06 فبراير 2024 بالرباط، عرفت تداولا كبيرا، كما عرف لقاء تقديمها الأولي حضورا نوعيا من طرف الهيئات والشخصيات المنتمية لمختلف الأطياف اليسارية والإسلامية منها على الخصوص.
وتعتبر الوثيقة السياسية التي جاءت في حوالي 196 صفحة، ضمن سلسلة من الوثائق التي سبق وأن أصدرتها الدائرة السياسية لجماعة العدل والإحسان منذ تأسيسها سنة 1998، حيث سبقتها العديد من الوثائق والأوراق منها وثيقة “حلف الإخاء” الصادرة سنة 2006، ووثيقة “جميعا من أجل الخلاص” الصادرة عام 2007، وغيرها من الوثائق التي ما إن تصدر حتى تخلف وابلا من ردود الفعل من مختلف الطيف المجتمعي المغربي، وهو ما يزكي مكانة الجماعة التي لا زالت حسب مراقبين أبرز تنظيم معارض.
بقاء جماعة العدل والإحسان في المعارضة، رغم رياح الربيع التي هبت على المنطقة العربية سنتي 2011 و2012، يشكل طبعا استثناء في سياق إقليمي عرف مشاركة معظم الأحزاب والتنظيمات الإسلامية في العملية الانتخابية، بحيث أصبحت طرفا في الحكومات، كما هو الشأن بالنسبة لحركة الإخوان المصرية، وحركة النهضة التونسية، وحزب الإصلاح اليمني، وحزب العدالة والتنمية المغربي، وغيرها من التجارب التي أصبح مآلها مؤلم، وإن كانت تتفاوت درجتها من بلد إلى آخر، بحيث تمت إزاحتها من المشاركة والتدبير العام بأساليب متنوعة كلها بعيدة عن صناديق الاقتراع النزيه، وإذا كانت في المغرب أقلها درجة، فإن الوضع في تونس لا يبشر بخير لدرجة أن تم الزج بقيادات في السجون، في ما عرفت التجربة في مصر واليمن أحداثا مؤلمة، تم خلالها استعمال السلاح والقوة لإنهاء هذه التجارب التي لم تدم سوى بضعة شهور، وهو ما يجعل من مبادرة العدل والإحسان المغربية مبادرة مختلفة خاصة وأنها جاءت بالعديد من الإيجابيات لا تخفى على منصف، كما أن مآل هذه التجارب السالف ذكرها والتي هي قريبة فكريا ومذهبيا من العدل والإحسان كان حاضرا في الوثيقة السياسية بشكل غير معلن، ونعني هنا أساسا الاستعداد غير المسبوق الذي أبدته الجماعة في التنسيق والعمل المشترك مع فضلاء المغرب.
وتأتي هذه الوثيقة في سياق يعرف فيه المغرب انسدادا في الفعل السياسي والحقوقي والإعلامي، فهناك أحزاب سياسية وهيئات جمعوية ممنوعة من حقها في التنظيم القانوني، رغم المجهودات والمحاولات التي بذلتها من أجل نيل هذا الحق، كما أن مدونة الصحافة والنشر رقم 88.13 الصادرة 10 غشت 2016، كانت السبب المباشر في إغلاق عدد من الصحف الإلكترونية المعتبرة بسبب الشروط القاسية التي جاءت بها خاصة في ما يتعلق بالإنشاء والتأسيس، في مقابل فتح الباب على مصراعيه لمواقع محسوبة على الإعلام قسرا عنوانها الأساسي التشهير المبالغ فيه بالمعارضين والمنتقدين، حيث نال بعض رموز الجماعة نصيب وافر من حملات التشهير، بالإضافة إلى أن مجموعة من الصحفيين والحقوقيين يوجدون وراء القضبان فقط لأنهم أرادوا المساهمة في النقاش العام بشكل جدي ومسؤول .
قوة الجماعة التنظيمية
تؤكد الوقائع الميدانية، أن الجماعة لا زالت تحتفظ بقدرة تنظيمية عالية، كما أن علو كعبها على الحشد لا زال كبيرا، آخر ما يمكن المحاججة به في هذا المضمار، هو عدد الوقفات والمظاهرات التي نظمتها “الهيئة المغربية لنصرة قضايا الأمة ” التابعة للجماعة، منذ السابع من أكتوبر 2023 تاريخ انطلاق عملية طوفان الأقصى التي تقودها حركة المقاومة الإسلامية حماس ضد الكيان الصهيوني، حيث تجاوز العدد 1850 مظاهرة حسب كتيب أصدرته الهيئة المشار إليها بمناسبة مرور 100 يوم على عملية طوفان الأقصى، وهو رقم يبرز مدى تفوق الجماعة في الحشد والتنظيم، حيث همت مختلف المدن والجهات بل حتى أزقة وأحياء بمدن ومقاطعات هامشية حسب ما وقفنا على ذلك بمدينة طنجة على سبيل المثال، وهو ما يفند ما يعتبره البعض كون العدل والإحسان تعرف تراجعا تنظيميا، منذ وفاة مؤسسها و مرشدها في 13 دجنبر 2012، الذي كانت مبادراته وكتاباته بقدر ما تخلخل الساحة السياسية المغربية، بقدر ما تساهم في توسيع القاعدة التنظيمية للجماعة، هذا فضلا عن مساهمة العدل والإحسان في المظاهرات الكبيرة والمسيرات الحاشدة التي تنظمها في نفس السياق “الجبهة المغربية لدعم فلسطين وضد التطبيع” والتي تعتبر الجماعة أحد أطرافها إلى جانب تنظيمات يسارية وتيارات إسلامية أخرى.
العمل المشترك.. وضوح غير مسبوق
خلاصة أولية أخرى يخرج بها القارئ للوثيقة السياسية، هي النفس والروح التي عبرت عنها الجماعة والرغبة الواضحة والقوية في العمل المشترك مع أكبر قدر ممكن من التيارات والتنظيمات والشخصيات الوطنية المنتمية لمختلف الطيف المجتمعي، والأمر لم يكن بهذا الوضوح في العقود الماضية، وإن كانت الجماعة قدمت عمليا مجموعة من النماذج الناجحة في العمل المشترك، أصبح البعض منه يقدم كنموذج لما يمكن أن يقدم على هذا المستوى، رغم الملاحظات التي قد يسجلها البعض، ونعني هنا التنسيق غير المسبوق الذي وقع في 20 فبراير 2011 وما بعدها بمدينة طنجة ومدن أخرى، حيث الانسجام بين مختلف الأطراف اليسارية والإسلامية العنوان الذي ميز المرحلة لشهور، لتتجاوز العلاقة بين مكوناتها لتصبح الأخوة عنوانها، صحيح بسبب نقاء الأطراف الأخرى، لكن أيضا بسبب جدية ومسؤولية قيادات العدل والإحسان المحلية، كما أن الليونة التي أظهرتها الجماعة في ملف مشروع مدونة الأسرة خلال الأسابيع الأخيرة، خاصة في ما يتعلق بالاستعداد الكبير للتنسيق مع مكونات أخرى، أساسا هنا الأطراف الإسلامية وفي مقدمتها حركة التوحيد والإصلاح رغم التباين الواضح على المستوى السياسي، في محاولة للتأثير في مسار مشروع المدونة التي وصلت إلى مراحل متقدمة، يجعل من هذه الوثيقة السياسية أمر مختلف عن سابقاتها، وتؤكد بوضوح نزول الجماعة من برجها العالي الذي ميز مواقفها إبان فترتي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، حيث تطور الموقف على هذا المستوى بشكل إيجابي وملفت منذ وفاة المرشد وهو الأمر الذي قوبل بإيجابية أيضا من أطراف عديدة خاصة تلك القريبة منها في المواقف والتقديرات السياسية، يزكيه الحضور النوعي للقيادات السياسية والفكرية التي حضرت لقاء التقديم الأولي للوثيقة مساء الثلاثاء الماضي، بالإضافة إلى تصريحات رموز الدائرة السياسية للجماعة التي تؤكد في مجملها على التعاون والتقارب لإحداث تأثير أكبر على الساحة المعارضة.
تقول الدائرة السياسية في وثيقتها الصفحة 12 (وبإصدارنا لهذه الوثيقة فإننا لا ندعي لها الكمال، ولكنها تعكس إرادة صادقة لبناء مغرب جديد على هدى من الله وبمعية كل من له غيرة على هذا البلد. فقد كانت يد الجماعة منذ تأسيسها ممدودة لكل الصادقين، وستظل كذلك، وهو ما نعتبره واجبا وليس منة على أحد. ومما يجعل ذلك أكثر إلحاحا هو حجم مشاكل المغرب التي تعقدت وتضخمت لدرجة أصبحت أكبر من أن يواجهها طرف واحد مهما بلغت قوته وحسنت نيته، مما يتطلب حلا جماعيا يتم قبله وخلاله وبعده حوار مسؤول وواضح وهو أمر ممكن إن صفت النيات، وكانت مصلحة المغرب والمغاربة أسبق في الاعتبار وأبعد عن الحسابات الضيقة والدروب المعتمة).
وتمضي الوثيقة في وضوحها حيث تقول في المحور السياسي الصفحة 34، أنه “يجب جعل التعددية السياسية أساس العمل السياسي، مع ما يتطلب ذلك من ترسيخ لثقافة القبول بالآخر مهما كانت الاختلافات والتباينات. فالوطن يسع جميع أبنائه، وثقل تركة الاستبداد يفرض على كل الغيورين أن يمدوا أيديهم لإنقاذ هذا الوطن والنهوض به من جديد، والمشترك يتسع نطاقه بإرادة مختلف القوى الحية، والبناء المشترك يكون بنيانه أقوى وعمره أطول ومناعته أصلب أمام استكبار عالمي لا مكان فيه للدول الضعيفة المنقسم شعبها”.
هذا الخطاب لم يكن بهذا الوضوح النوعي من قبل، وهو ما يعني أن الجماعة اقتنعت بأهمية التعاون والعمل المشترك والعمل على تذليل كل الصعاب أو ما يمكن أن يكون عائقا أمام تطوره، وهو ما أكدته الجماعة عمليا في تنسيقها حول مجموعة معتبرة من الملفات محليا ووطنيا، انطلاقا من تجربة حركة 20 فبراير، مرورا بتنسيقها محليا بمجموعة من المدن، أبرزها طنجة، حيث التقارب واضح مع قوى التغيير اليسارية والإسلامية، فضلا عن تأسيسها للجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع، إلى جانب قوى أخرى، حيث تعرف نجاحا كبيرا أعطت العدل والإحسان نموذج عملي لحاجتها لعمل مشترك، وهو ما سيشكل إن تطور وتم تجويده أكثر انعطاف في سلوك المعارضة المغربية.
الأساليب الديمقراطية في وضع الدستور
هذا المطلب وإن كان جذريا، لكنه عرف تطورا داخل تصورات الجماعة، إلا أنه فيه من الليونة ما يمكن أن يجمع حوله أكبر قدر ممكن من القوى الحية المغربية، إن توفرت إرادة حقيقية، خاصة لما ظهر من تقارب وطني غير معلن بين الجماعة وحزب النهج الديمقراطي بالإضافة إلى العلاقة الطيبة التي تجمعها بالحركة من أجل الأمة، كما أن الجماعة تنسق محليا مع عدد من القوى اليسارية الأخرى كالحزب الاشتراكي الموحد والحركة من أجل الأمه وحزب النهج، فضلا عن شخصيات فكرية وسياسية مستقلة واضح قربها من الجماعة في عدد من الملفات.
وتواصل الجماعة خطابها المعارض القوي، عندما تقول في الصفحة 39، “لا معنى لوجود دستور إن كان الحاكم يجمع بين يديه كل السلط: التشريعية والتنفيذية والقضائية، ويجعلها في خدمته وعلى الهامش من وجوده. ففكرة الدستور ارتبطت نشأتها وتطورها بمبدأ فصل السلط، كما ارتبطت بحفظ حقوق المواطنين وحرياتهم، لذلك لا بد أن تحقق الوثيقة الدستورية نوعا من التوازن بين مختلف السلط الدستورية”.
مقترحات بعيدة عن لغة العموم
من الأمور المثيرة للانتباه في الوثيقة السياسية، هو تشخيص المجال ثم تقديم مقترحات نوعية ودقيقة بشأنه، بعيدة عن لغة العموم التي ميزت الوثائق السابقة، وصلت إلى 777 مقترح همت مستويات الحقوق والحريات السياسية والمدنية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وإصلاح الإدارة، بالإضافة إلى مقترحات تهم محاربة الفساد بما في ذلك مؤسسات الدولة، ومقترحات حول السياسة الخارجية والعمل الدبلوماسي، وأيضا المؤسسات التشريعية والقضائية والتنفيذية، وعلى مستوى السياسة الأمنية والدفاعية.. وغيرها.
على سبيل الختم
في تقديري، بهذه الوثيقة تكون جماعة العدل والإحسان قد أقامت الحجة على كل مكونات الطيف المجتمعي، اقتراحا وتفصيلا وتدقيقا وتطويرا همّ موقف الجماعة من مختلف المجالات والملفات، كما أن الرغبة الملحة في التنسيق والعمل المشترك مع مختلف الغيورين على البلد، واضحة للعيان، فهل ستبدي المكونات المعارضة الإسلامية واليسارية نفس الرغبة؟ وهل ستستطيع الجماعة إقناعها بالجلوس إلى طاولة الحوار لإحداث توازن داخل الساحة السياسية المغربية، خاصة وأن مكان المعارضة في المغرب يعرف فراغا مهولا؟ الكرة في ملعب المعارضة بمختلف ألوانها؟ فهل ستكون سنة 2024 سنة المعارضة؟