خريطة الرسالة
المناسبة: تذكيرٌ بأهمية مجالس النصيحة، وتحفيزٌ على حضورها والإحضار إليها.
المكان: الرباط المبارك.
الزمان: سلا الخميس 5 رجب 1418.
المرسِل: الإمام المجدّد عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى.
المرسَل إليه: سيدي محمد عبادي خاصة، والإخوة والأخوات عامة.
“بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه وإخوانه وحزبه.
سيدي محمد عبادي، وسائر من معه في الرباط المبارك، ثم الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كتب الله لكم الحسنى، ووفقكم لما يحبه ويرضاه، وختم لكم ولنا وللمسلمين بعاقبة المتقين، آمين”.
بعد التحية والدعاء شرع الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله في بيان أهمية مجالس النصيحة؛ والتي تتجلى في انشراح الصدور، ومعناه انفتاحه لتلقي الأنوار الإلهية، ببركة الصحبة والذكر والصدق. يقول الله تعالى: فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ أي: يفتح قلبه وينورُه حتى يقبلَ الإسلام، ولما نزلت هذه الآية سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرح الصدر، فقال: “نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينشرح له وينفسح”، قيل: فهل لذلك أمارة؟ قال: “نعم، الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت”.
وفي سياق حديث الإمام المجدد رحمه الله في هذه الرسالة عن أهمية مجالس النصيحة ذكّر بشروط التربية: الصحبة والجماعة والذكر والصدق، وكأن النصيحة هي التربية الإيمانية بعينها، أو يعني بهذا أن ممارسة التربية الإيمانية بشروطها إنما تتمّ بشكل كامل في مثل هذه المجالس.
ذكّر أولا بخصلة الصحبة: وذلك باستحضار واجبنا تجاه مجالس النصيحة، ويتمثل هذا الواجب في التوقير والتعظيم، والمواساة والافتقار إلى رحمة الله، يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر: 15]. وفي نفس الوقت حذّر أشد التحذير مما يفسد النصيحة وعلى رأسه: تكبّر النفس الأمارة بالسوء.
وفي هذا السياق أكد على ضوابط الحضور: تتمثل في الرغبة والشوق إليها، والحاجة عند الله تعالى، والوعي بقيمة مجالس النصيحة وبأهميتها.
ثم أشار إلى موانع الحضور: وهما أمران: إما الفتور المؤقت الذي يصيب البعض وإمّا النفور من مُبلّغ لم يحسن الدعوة: لم يؤلّف ولم يحبّب.
وبيّن أيضا أن نجاح مجالس النصيحة يكمن في استمرارها وكثرة عدد حضورها، وهذا يقتضي منا: أولا: شكر الله على هذه النعمة، وثانيا: التعاون على إنجاح هذا الخير بالملازمة والتفقّد والاصطحاب.
يقول الإمام رحمه الله تعالى: “لذا فشكر نعمة الله علينا أن هدانا لذكره والتعاون على بره يقتضي منا أن نبلغ ونؤلف ونحبب ونأخذ باليد بالرفق والملازمة والتفقد والاصطحاب، فردا فردا، يوما بعد يوم، مرة بعد مرة، حتى ترسخ الأقدام وحتى يحصل فلان وفلانة في صحيفة الداعي والداعية. تلح على من ترجوه، وتقرع عليه الباب حسا ومعنى، وإلا بقيت مجالسنا قببا مغلقة لا شمس ولا هواء. فرب إخوان وأخوات تنتظرهم الأرزاق الروحية الجزيلة حُرمْنا حَظنا منها إذ لم نخبر ولم ندع ولم نؤلف ولم نأخذ باليد”.
وبعد ذلك حثّ على التنافس في هذا العمل، فإن الدعوة إلى حضور النصيحة هداية للناس، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال لعليّ رضي الله عنه: “فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النَّعم” (متفق عليه). الحديث فيه تأكيد على أن الهداية سنة مؤكدة، بشرط أن نختار من له رغبة وقابلية واستعداد للحضور، فإن مجلس النصيحة ليس سوقا في المساومة.
وذكّر ثانيا بخصلة الذكر: وهو نوعان: ذِكر عام يتضمن إقامة الصلوات وحضور الجماعات وفي المسجد. وما يتبع ذلك من السعي الجهادي داخل الصف ومع الصف وبنظام الصف. وذِكر خاص يتضمن الورد اليومي بجلساته، فمن لا ورد له لا وارد له.
والورد الذي يُخرج صاحبَه من التسيب في الأوقات هو الذي يكون دواما ومداومة وصبرا ومصابرة ويكون له الأثر والخبر. كما أن تحقيق الذكر بهذه المعاني العامة والخاصة هو الذي يمنح الصبر غدا في المواقف الجهادية وأثناء التدافع وجها لوجه مع الباطل وسدنته.
ذكّر ثالثا بخصلة الصدق: بأنه برهان وعنوان. وبأن الصدق في طلب وجه الله ينافي ويناقض: النفاقَ بشعبه، الجهلَ بطلب ما عند الله، التكبرَ، عدمَ التصديق بمعية الله في المواطن التي ذكرها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله ﷺ: “إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يَقُولُ يَوْمَ القيَامَة: يَا ابْنَ آدَمَ، مَرضْتُ فَلَم تَعُدْني، قال: يا ربِّ، كَيْفَ أعُودُكَ وأنْتَ رَبُّ العَالَمين؟! قَالَ: أمَا عَلِمْتَ أنَّ عَبْدي فُلانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ؟ أمَا عَلِمْتَ أنَّك لَوْ عُدْتَه لَوَجَدْتَني عِنْدَهُ؟ يَا ابْنَ آدَمَ، اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمنِي، قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأنْتَ رَبُّ العَالَمِينَ؟! قَالَ: أمَا عَلِمْتَ أنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟ أمَا عَلِمْتَ أنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي؟ يَا ابْنَ آدَمَ، اسْتَسْقَيْتُكَ فلم تسقِني، قال: يا ربِّ، كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ العَالَمينَ؟! قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أمَا عَلِمْتَ أنَّكَ لو سقيتَه لوجدتَ ذَلِكَ عِنْدِي؟” (رواه مسلم رحمه الله).
ووضح الإمام بعد ذلك أن الصدقَ محلّه القلب ولذلك معالجته ذاتية، وتكون بأمور ثلاثة:
أولا: بالمحاسبة المستمرة للنفس، ومقارنة تخاذلها باجتهاد غيرها من الأحياء والأموات، وقرع مسامعها بـ:”فاتك الرجال يا خسّيسة”.
ثانيا: بالتضرع دعاء وبكاء على باب الربّ الكريم أن يمسح عنها غبار الغفلة وعفَن الاستغناء بالطاعات.
ثالثا: باستعانة المؤمن بإخوانه في مجالس النصيحة بنية المحتاج الفقير.
فإن نيل مقعد الصدق عند الله تعالى إنما يكون بتحقيق معاني صدق الطلب وصدق الهجرة وصدق النصرة وصدق الحاجة إلى المولى الكريم.
وأخيرا ختم رسالته بالدعاء مع المرابطين ومع سائر المرابطين الآخرين من المؤمنين والمؤمنات بالبركة وسائلا منهم الدعاء الصالح. فقال رحمه الله: “بارك الله لكم أحبتي في رباطكم هذا وفي سائر رباطات المؤمنين والمؤمنات”. آمين يا رب العالمين.