كانت تعيش في منزل متواضع بمدينة صغيرة وهادئة على الساحل، أسرة صغيرة مكونة من الأب “جواد”، والأم “وداد”، وابنيهما؛ “محمد” و”عبد الله”. كان جواد يعمل طوال اليوم في متجره الذي يبيع فيه الملابس الجاهزة. بينما تقوم وداد برعاية الطفلين، وتدبير شؤون البيت. كانت هذه الأسرة تعيش حياة بسيطة، ولكنهم كانوا سعداء.
يعتبر جواد أسرته مصدر قوّته، لذلك تجده يبذل قصارى جهده ليوفر لها احتياجاتها المادية والمعنوية. وكذلك الشأن بالنسبة لزوجه وداد، التي كانت تدير شؤون بيتها بإخلاص وتفان، وتعتني بزوجها وابنيها بمحبة وسخاء. أما محمد وعبد الله فكانا يحبان بعضهما كثيرا، بحيث يظل الصغير عبد الله، يترقب عودة أخيه من المدرسة وهو ينتظره على النافذة. وكلما عاد محمد من مدرسته هرع ليعانق أخاه ويلعب معه، ثم بعدها يذهب ليساعد أمه في أعمال البيت، إلى حين اقتراب موعد عودة أبيه، ليركض محمد إلى المتجر كي يصحبه في طريقه إلى البيت. هم الأبوان الرئيس، هو حماية ورعاية فطرة ولديهما، لذلك يجتهدان ليلقناهما في كل وقت وحين أسس التربية الصحيحة، فيحرصان على غرس القيم الدينية لديهما، وترسيخ الأخلاق الحميدة. يتعاون الزوجان على رعاية بيتهما وتربية وتعليم ولديهما، ويتشاركان في اتخاذ القرارات التي تخص أسرتهما الصغيرة.
كانت الأسرة تجتمع كل مساء لتناول وجبة العشاء، وهم يروون لبعضهم البعض أحداث يومهم، فيتبادلون الحوار ويتشاركون الهموم، ويلاعبون صغيرهم عبد الله… ولعل المساء كان الوقت المفضل لدى هذه الأسرة الصغيرة، حيث يسود جو مفعم بالحب، يشعر أفرادها بالسعادة والطمأنينة والسكينة.
وفي أحد الأيام طلبت مدرسة محمد من تلامذتها أن يتوفروا على هاتف محمول لأجل أغراض دراسية. فأسرع جواد لشراء الهاتف لابنه. ومن يومها بدأ جواد ووداد يستكشفان مع ابنهما محمد مزايا الهاتف النقال، فبدا لهما أهمية استخدام هذه الوسيلة التقنية، ما دفع جواد لاقتناء هاتف له وآخر لزوجه.
في البداية، استخدم أفراد الأسرة الهواتف المحمولة فقط لأغراض التواصل والتعليم. لكن مع مرور الوقت، أصبحوا يعتمدون عليها بشكل كبير، فيقضون معظم أوقاتهم في تلمسه والإبحار في برامجه ومواده، حتى عندما يجتمعون مساء في غرفة المعيشة، يبقى كل واحد منهم مشغولا بجهازه منعزلا عن الباقين. فترى الأب جواد إما يتصفح مواقع الأخبار، أو يستعرض مواقع بيع البضائع، أو يتحدث مع وكلاء البيع والشراء. أما وداد فلم تعد تكفيها أوقات النهار للتجول بين مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، والتحدث مع الأقارب والصديقات، ومشاهدة الفيديوهات وتتبع المسلسلات. بينما يظل الطفلان يتشاجران على جهاز محمد، لأن الصغير عبد الله يريد هو أيضا اللعب بالهاتف مثل أخيه الذي بات لا يستطيع التوقف عن الألعاب الإلكترونية.
تغيرت مظاهر حياة الأسرة، وبدأ البرود يتسلل إلى العلاقة بين أفرادها، وتزداد النزاعات والشجار يوما بعد يوم، وبدأت شعلة الحب التي كانت تجمع بينهم تخفت شيئا فشيئا. حتى أقبل شهر رمضان الكريم، لينتبه الوالدان إلى الحالة التي وصلت إليها أسرتهما. ففزعا عندما بدءا يقارنان حالهم بما كانوا عليه خلال شهر رمضان السنة الماضية، فتأسفا كثيرا على فقدان تلك اللمة الدافئة المغمورة بالحب المتبادل، وعلى غياب ذلك الوصال الروحي والاجتهاد الجماعي في الطاعات والعمل الصالح. فعقدا العزم على تجديد العهد خلال شهر رمضان الأبرك على المحبة والوصال الدائم، وإزاحة مسببات سريان الجفاء بين أفراد أسرتهما، لتبقى لمتهم دائمة، تثمر خيراتها في الدنيا والآخرة.
قرر الوالدان أن يشركا ابنهما الأكبر ” محمد” في هذا الحوار المصيري، الذي أسفر نقاشه على تصحيح الفهم أولا حول أهمية الوسائل التكنولوجية في هذا العصر، ثم الاتفاق على برنامج استعمالها بالشكل الصحيح الذي لا يهدد استقرار أسرتهم ويخرب علاقتهم ببعضهم.
قال جواد مخاطبا ابنه محمد: “يا بني الهاتف المحمول ليس هو السبب فيما وصلت إليه أسرتنا، بل سوء استعمالنا له أدى إلى تغيير حالنا وبرود علاقتنا”.
– تابعت وداد: “حمدا لله أننا تداركنا الأمر قبل استفحاله”.
– أردف محمد قائلا: “نعم أبي، لقد حدثتنا المدرسة عن فوائد الهاتف في التعليم، لكنها أيضا حذرتنا من كثرة استخدامه لأنه قد يؤثر على عمل الدماغ ونسبة التركيز”.
– رد عليه جواد ” بالتأكيد بني، إضافة إلى تلك مزاياه في التعليم، فهو ييسر التواصل بين الأقارب، ويتيح إمكانية الاطلاع على أحداث وأخبار العالم، ومعرفة أحوال الناس وثقافاتهم. إلا أنه سيف ذو حدين”.
– استطرد محمد في دهشة: ” سيف ذو حدين؟!”.
– أجابت وداد مبتسمة: “يعني يا حبيبي، أن الهاتف له تأثير إيجابي وآخر سلبي؛ فمثلا بالنسبة لأسرتنا كان من الممكن أن يؤدي كثرة استخدامه إلى إهمال كلي لأنشطتنا الأسرية المشتركة، وإلى غياب تام للحوار والنقاش بيننا لتبادل الهموم والآراء، فتتشكل الحواجز وتكثر الخلافات والمشاحنات، ثم تصاب علاقتنا بالبرود العاطفي التام، ومن ثمة يتنامى الشعور باللاانتماء للأسرة، فيحاول كل منا البحث عن البديل. وهكذا تخرب علاقتنا وتنهار أسرتنا لا قدر الله”.
– أضاف جواد مسترسلا: ” نعم أي بني، إضافة إلى كل ذلك، فسوء ترشيد استخدام الهاتف النقال يمكنه أن يؤثر سلبا على صحتنا النفسية، بسبب الانعزال وقلة النوم، كما أنه يضعف النظر، ويؤخر نمو بعض الذكاءات، ويعطل الإبداع المهاراتي”.
– صرخ محمد متعجبا: “يا إلهي! لابد إذا أن نسرع في معالجة هذا الأمر”.
وفي نهاية الحوار، قام جواد ووداد باشراك ابنهما محمد في اتخاذ القرارات التي من شأنها الحفاظ على استقرار أسرتهم وحماية علاقاتهم. فتم وضع قواعد للحد من التأثيرات السلبية لاستخدام الهاتف النقال في المنزل. كتحديد أوقات معينة لاستخدامها، وتخصيص وقت أكبر للأنشطة الأسرية المشتركة داخل البيت أو خارجه؛ كالخرجات، والرحلات، والاحتفال معا بالمناسبات… والبحث عن بدائل ترفيهية ممتعة ومفيدة مثل: مزاولة أنشطة بدنية وأخرى يدوية، والقيام بأعمال الطاعات والعبادات والمعاملات الاجتماعية بشكل جماعي، ومحاولة استخدام تطبيقات متنوعة من الهاتف تعزز التواصل والمحبة بين أفراد الأسرة.
وضعت الأسرة خطة محكمة لبرنامج متوازن يشمل الأنشطة الفردية والجماعية، راجين من الله العلي القدير أن يعينهم على تثبيت الحب والمودة والسكينة داخل بيتهم وأن يحصنهم وأبناءهم، ويجعل قلوبهم دائمة الانجماع على الله تعالى.
بدأت الأسرة بتطبيق البرنامج الذي سطرته في الحين ودون تردد، فكان أول نشاط من اقتراح محمد الذي طلب من أمه – وكله حماس – إحضار ألبوم الصور. فجلسوا جميعا في غرفة المعيشة، يتفرجون عليها ويسترجعون ذكرياتهم القديمة وهم يضحكون. كانت قهقهات الصغير عبد الله تعلو غرفة المعيشة، فرغم أنه لا يدرك سبب ضحك والديه وأخيه، إلا أن مشهد الأسرة ذاك أشعره بالفرح والسرور.
وهكذا وبفضل اغتنام أسرة جواد فضل وبركة شهر رمضان الفضيل، لتجديد العزم واستنهاض الهمم للم شعث أسرتهم، ولجوئهم إلى المولى عز وجل بالدعاء والتبتل. تعود للأسرة لمتها المغمورة بالحب والسعادة، ويسود بيتهم من جديد جو مفعم بالراحة والطمأنينة، ما يزيد أفراد الأسرة تشبعا عاطفيا. الأمر الذي يحصنهم ويمنحهم الرضى والسلام الداخلي، ويعطيهم القوة لأداء مهامهم والقيام بوظائفهم بكل فعالية تجاه أسرتهم ومجتمعهم.
إن أول لمة ينبغي تحصينها والحفاظ عليها: أسرتنا الصغيرة. فلنبادر جميعا بتداركها حتى تدوم لمتنا، ويصير اجتماع اجسادنا انجماع لقلوبنا على الله تعالى، فتزهر علاقاتنا وتثمر خيرا كثيرا في الدنيا والآخرة. إلى هنا تنتهي قصتنا. دمتم في رعاية الله والحمد لله رب العالمين.