ماري المسلمة
أفاقت ماري على أذان الفجر الذي كانت قد ضبطت عليه هاتفها المحمول، فحمدت الله سبحانه وتعالى على أن من عليها بنعمة الإسلام والصحبة منذ سنة، وقد دخلت في الخمسينات من عمرها. الواقع أن انتمائها لهذا الدين الحنيف كان بمثابة يد رحيمة انتشلتها من متاهات كانت ستؤدي بها حتما إلى الجنون أو الانتحار. متاهات سببها حياة البذخ … عاشت ماري الإسراف بكل أنواعه : في العواطف، في المال، في الوقت. والغريب في الأمر أنها كانت كلما بالغت في الإنفاق، كلما جاءت النتائج عكسية. فيزداد ضيقها وحيرتها. تخلت عنها الأضواء بسبب تقدمها في السن، هي الفنانة المرهفة. وما عاد يتردد على حفلاتها بالبيت إلا شرذمة من الرفقاء المستغلين لكرمها، أو ثلة من الصحفيين المبتدئين يستفيدون من اسمها المتألق، قصد تسلق سلم الشهرة. تعبت في البحث عن السعادة: انهيار عصبي، طبيب نفسي، كثير من المسكنات، وألم ودموع…وعذاب.
جارة جديدة
إلى أن جاء اليوم الذي عرفت فيه ماري جارة جديدة، سكنت بالشقة المقابلة لشقتها. جارة من نوع جديد. جارة اجتماعية وبسمتها مشعة وعاداتها مختلفة تماما عن عادات الغرب : كرم وسخاء، بلا خوف ولا طمع. بمجرد ما استقرت الجارة الجديدة، أهدت لماري طبق حلوى وقالت لها أنها حديثة عهد بالزواج وقد جاءت من المغرب. أخبرتها أيضا أن اسمها عائشة. وقد أصبحت ماري تناديها الآن عائشة البشوش..
نعم. يسر الله لعائشة البشوش أن تزيح وشاح الضباب الذي يغشى بصيرة ماري وتكشف لها أن سبب شقائها هو الفراغ الروحي…
بالضبط، لقد استحالت حياتها إلى فراغ روحي رهيب لا يطاق. وها قد استطاعت عائشة البشوش أن تشخص مرضها بل وتساعدها على التخلص منه.
لكن لماذا ترجع إلى هذه الذكريات الأليمة وقد عبرت إلى بر الأمان بشكل جعلته عائشة البشوش سهلا ومريحا حتى إنها أكدت لها أنها ليست بحاجة لتغيير اسمها كي لا تقطع الأواصر التي تربطها بذوي رحمها.
يا إلهي كل شيء سهل مع عائشة البشوش ! فقد ذكرتها بوالديها وإخوانها الذين كانت العلاقات معهم قد ترهلت منذ سنين…منذ تهافتها على الأضواء.
الخلق قنطرة الخالق
تخلت الآن عن رفقاء السوء وجعلت عطلة الأسبوع يوما قارا لزيارة الأقارب. و كانت تقرأ في أعينهم فرحا اقترن بتساؤلات عن السبب في تغيرها المفاجئ هذا. تساؤلات صامتة تؤجل الجواب عنها إلى حين…حتى تتعلم أكثر من عائشة البشوش….فما أكثر ما علمتها.
وفجأة خطر لها خاطر : ماذا لو استحالت هي إلى عائشة البشوش ؟ تعني ماذا لو أدت لغيرها من أبناء جلدتها، وهي الأقدر على التواصل معهم، الخدمة التي قدمتها لها عائشة البشوش؟
نعم سوف تبدأ ب”جولييت” أختها المطلقة، و”فاليري” صديقة طفولتها، التي ذاقت المر بخروج ابنها وابنتها عن سيطرتها وانجرافهما مع تيار الإباحية الفتاك، وأخوها الأكبر “جاك” الذي أصيبت شركته بالإفلاس فضاع حصاد عمره…
ألم تقل لها هذه الصديقة العزيزة أو الأخت في الله كما يشاء لها أدب الأخوة أن تسميها، ألم تقل لها ذات مرة : للحياة طعم حين نعيشها لله ولها طعمان حين نعيشها لله مع أحباب الله. ماذا لو تحول كل من “جولييت” و”فاليري” و”جاك” إلى أحباب الله ؟ ماذا سيكون شعورها حين تدخل السعادة على قلوبهم ؟
لكن سرعان ما تراجعت عن الفكرة، فهي وإن كانت تعيش تغييرا عرفت فيه السكينة والهدوء وودعت فيه زمن الحيرة والمسكنات، لم تلمس في نفسها القدرة على المواجهة أو الإقناع بعد.
عائشة البشوش
المواجهة ؟ الإقناع ؟ وهل تعرضت مع عائشة البشوش إلى مواجهة…
سَمْتُها البسيط، نبرتها الصادقة، نظرتها الثاقبة، أذنها الصاغية، أدبها وأخلاقها ورقتها…
خصال كان لها أثر كالسحر، انساقت معه “ماري” إلى كل ما توجهها إليه جارتها دون جدال ولا مقاومة… وتسألها المزيد .
هذا هو البلسم لجراح أقاربها ومعارفها : عائشة البشوش. لا بد أن تجد فرصة للقائهم معها.
وأصبح الصباح.
سمعت ماري دقات خفيفة على باب شقتها، فعرفت لتوها دقات جارتها الحبيبة وقد تعودت منها تفقد أحوالها بصفة شبه يومية. طار قلبها قبل خطواتها إلى الباب وبعد السلام أدلت إليها بسبب زيارتها المبكرة هذه، وهو دعوة لحضور حفل زفاف ابنة أخت لها في الله، سيقام على الطريقة المغربية التقليدية، وذلك يوم الغد.
سرت ماري للخبر، وأرادت أن تكون هذه هي الفرصة التي تحلم بها : لقاء عائشة البشوش بالأسماء التي ذكرتها قبل حين، تعني الإناث منها. فغمرتها الفرحة حين وافقت عائشة البشوش على اصطحابها لهما إلى حفل الزفاف وأكدت عليها في الحضور على الساعة الثانية والنصف زوالا.
حفل الزفاف
لم تجد “ماري” صعوبة في إقناع المرأتين بالحضور في ذلك الحفل، فلطالما سمعن عن الأعراس المغربية أنها اختلاس من ليالي ألف ليلة وليلة. وأن العروس تحضى فيها بمكانة كمكانة الملكة لما تتمتع به فيها من زينة ومجوهرات وحلي وعناية لا تكاد توصف .
لأجل ذلك، جاءت النساء الثلاث إلى الحفل في الغد، تتوسطهن “ماري” في كثير من الفرح والأمل، على الساعة الثانية والنصف بالتمام لا تزيد ولا تنقص عنها دقيقة ولا ثانية.
لقد كانت قاعة الأفراح مؤثثة على النمط المغربي، بحيث فرش على البلاط بساط أحمر قان، وزينت الأركان بباقات من الزهور وأواني فضية، ووضع في المدخل سماط حمل بأنواع الحلوى التقليدية وصحون من الفواكه. بينما كان الجو يعبق بأريج البخور المكي مما يضفي على المكان جوا منعشا وهادئا.
لكن الغريب في الأمر أن القاعة كانت خالية تماما وحتى الاستقبال لم يكن فيه سوى البواب. نظرت ماري إلى الساعة خلسة للتأكد من الوقت وبعدها سألت البواب :
– من فضلك ألم تر هنا عائشة ؟ شابة بشوش…
– نعم، نعم. أنت “ماري” بدون شك ؟ انتظريها فقد ذهبت مع موكب العروس إلى صالون الحلاقة.
لقاء لم يتم
مرت ساعة فبدأ المدعوون يتوافدون على المكان والصبية بينهم كثير. وجعلت الضوضاء تسيطر شيئا فشيئا على الأجواء حتى كادت تغطي صوت المديح المنطلق من جهاز وضع على المنصة.
بدأت الضيفتان تتحركان في مكانهما تدمرا. أحست “ماري” أنه يجب عليها أن تفعل شيئا.
فاجتهدت بتقديم الحلوى لهما وهي لا تعلم إن كانت فد أحسنت في ذلك أم لا. ولكنها تمنت من قلبها لو جاءت عائشة. لأن العيوب كلها تختفي بوجودها. لديها شرح كل المسائل وحل كل المشاكل.
لو جاءت الآن لتداركت الأمر. لو جاءت الآن لذاقت “جولييت” و”فاليري” حلاوة الإيمان بالله ورسوله …لو جاءت الآن لحدثتهما عن الصحبة والأخوة في الله … لو….
أفاقت من تفكيرها بصوت حاد صدر عن مكبر الصوت، فقد كان صوت الجهاز مرتفعا بشكل فظيع يتخلله عطب فني تصعق له الأذنان وكانت الساعة تشير إلى الخامسة، والقاعة قد غصت بالمدعوين، وموكب العروس لم يحضر بعد.
نظرت “جولييت” إلى “فاليري” نظرة تحمل من المعاني الكثير، ثم إلى أختها “ماري” كمن يشك في سلامة عقلها، وأذنت بالانصراف. فقامت “ماري” في استسلام تجر أذيال الخيبة…كيف تبرؤ الآن ساحة من علمتها أن أعز شيء يملكه الإنسان هو الوقت فجعلتها بذلك تقلع عن تبذيره. غادرت المكان وفي قلبها ألف حسرة على اللقاء الذي لم يتم.
موعد جديد
في صباح الغد عاد النقر على الباب وقامت “ماري” بخطوات متثاقلة، فلازال في قلبها أثر الخيبة التي عاشتها بالأمس. بادرتها عائشة البشوش بقولها :
– لم انصرفت قبل مجيئي؟ كنت أود رؤيتك أنت وضيوفك.
– وأنا أيضا.
– لكنه موكب العروس. كنا ننتظر بعضنا البعض حتى ينتهي الكل من تصفيف الشعر. التأخر كان خارجا عن إرادتي .
– اسمعي يا عائشة، أنا ممنونة لك بكل ما قدمته لي . وعندي رغبة شديدة في تبليغ دعوة الله إلى من حولي. فهل تساعدينني ؟.
– يا للخبر السعيد، بكل سرور، كيف ؟.
– شقيقي جاك أحوج ما يكون لسماع كلام مما تقولينه لي، لأنه يجتاز محنة عصيبة.
– لا بأس سأكلم زوجي وأوصيه به خيرا. هل تستطيعان زيارتنا غدا بعد صلاة المغرب ؟.
بعد صلاة المغرب مباشرة، تساءلت “ماري” هل تذهب وقتها أم تنتظر قليلا ؟
لكن لماذا تنتظر؟ بالأمس كان هناك موكب عروس، واليوم ؟ لا داعي للانتظار. توجهت “ماري” و”جاك” إلى شقة عائشة البشوش.
مغربي آخر
لكنها فوجئت بهذه الأخيرة توشوش لها :
– عذرا، أخبرني زوجي هاتفيا أنه سيتأخر بعض الشيء، وأنت تعلمين أنه
لا يمكنني إدخال أخيك إلى البيت في غياب زوجي. عذرا. نصف ساعة وأكلمك، كلمتها بعد ساعة ونصف فذهبت “ماري” بصحبة أخيها وهي تسائل نفسها :
– عجبا، هل الساعة والنصف كمثل نصف الساعة ؟
إلا أن هذا التساؤل سرعان ما ذاب حين سمعت من المطبخ حيث كانت تساعد عائشة البشوش في ما تيسر، انسجام أخيها مع زوج عائشة. وارتاحت أكثر حين تذكرت أن هذا الأخير خريج مدرسة عليا للاقتصاد ومهتم بأمر أخيها، والدليل على ذلك أنه ضرب له موعدا في الغد بمقر عمله ليصله برئيسه الأخ كريم، مغربي آخر.
مغربي آخر وموعد آخر وبما أن أخاها سيكون وحده، خطرت لماري فكرة :
– جاك يا أخي أنت لست في حاجة للذهاب إلى موعد الغد في الوقت المطلوب بالضبط .
– ماذا تقولين ؟ إنه موعد يا ماري.
– أعلم، أعلم . اسمع، ماذا أقول ؟ كيف أشرح لك ؟ هما في مقر عملهما. وحضورك بعد الوقت قليلا لن يكلفهما شيئا، وسيجنبك قلق الانتظار لو شغلهما شاغل. أنا لا أريد لك القلق في هذه الظروف يا جاك.
– إن الأمر يتعلق بمصلحتي، هل تقدرين الموقف؟.
– أقدره جيدا، ولكني أعلم ما لا تعلم، افعل ما أقول.
– أمرك غريب، وفي نظرك، أتأخر كم من الوقت ؟.
فكرت ماري في نصف اليوم الذي مضى دون رؤية العروس، وفي نصف الساعة التي أصبحت ساعة ونصف فقالت:
– ساعة مثلا أو ساعتين، لا أكثر.
كادت بنصيحتها هذه، أن تفوت على أخيها فرصة عمل… بل أحسن من ذلك فرصة دخول في الإسلام .
ولكن المشكل لازال قائما عندها ليومها هذا، فهي تحتار في التعامل مع المواعد و لا تدري أبدا متى تذهب قبل الوقت ولا متى تذهب بعده لأنها نادرا ما تصادف من يحترم الوقت بالساعة والدقيقة والثانية.. فأين الخلل يا ترى ؟؟؟
وكيف سوف يتسنى لها مستقبلا أن تقوم بصلة الوصل بين هؤلاء الإخوة في الله الذين يتمتعون بالكثير من الخصال الحميدة، وبين أبناء العم سام الذين من بين شعاراتهم: time is money…؟؟؟