قصة معتكف

Cover Image for قصة معتكف
نشر بتاريخ

ابن بادية أنا… أعشق الأرض وأحبّ الطين… وأتلذّذ برعي غنمي وبقراتي. حينما تشحّ السماء، ويندر الماء، تضيق نفسي وأعاني كما يعاني الزرع، فيصفرّ لوني، وييبس جلدي، وتراني مهموما مغموما.

وحينما يجود مولاي بالغيث، ويخرج الحيّ من الميت، أحيا كما يحيا الزرع، فأنا والزرع نكاد نكون واحدا.

عندي خير كثير؛ زوج حافظة وأمّ حانية، وزرع وشجر ودواب وماشية. ولي من الولد ثمانية، كلّهم هجروني إلى الحضر وغادروا البادية، وتركوني وحيدا إلا واحدا منهم بقي معي، هو يدي ورجلي وعيني الغالية.

لكن رغم تعلّقي بالأرض فأنا لا أنسى بأنّها فانية، وقلبي شائق إلى الباقية، والفوز بربّي -جلّ وعلا- غايتي السّامية، وحبّ المصطفى صلى الله عليه وسلم يسكن حُشاشتي، وعيني من الشوق إليه باكية.

لمّا اقتربت العشر الأواخر من رمضان، حدثني قلبي عن الاعتكاف، وكلمتني نفسي عن الأشغال والحرث والماشية.

وبينما كنت أصارع النفس التي تجرّني إلى الهاوية، اتصل بي أحد الإخوة يخبرني بمكان الاعتكاف وبالرفقة التي ستذهب معي… كنت حينها أرعى غنمي بعيدا عن البيت. فقلت: اللهم غَنمي أو غُنمي؟ أأبقى هنا أرعى القطعان، أم أذهب لأرتع في رياض الجنان، وأصل الرحم مع الإخوان، وأجلس بين يدي الرحمان راجيا التوبة والغفران، طامعا في القرب والأنس ومجاورة طه العدنان؟

قمت غاضبا -بعد خصام مع نفسي- وسُقت غنمي بفظاظة لم أتعامل بها معها من قبل… أدخلتها الحظيرة، وأحضرت حقيبتي أجمع مستلزمات الاعتكاف… حملت شيئا وتركت أشياء.

فررت منهم لمّا خفت أن يغلبوني… النفس والزوج والولد والأحفاد والغنم والبقر والدواب والحرث كلّهم ضدّي وأنا وحيد لا قوة لي، فاستنجدت بربّي وخرجت كالهارب أقول لهم: “كلّ شيء أمامكم… قوموا بما استطعتم، واتركوا ما لا تطيقون.”

كان عليّ أن ألتقي برفقتي في مدينتنا ثمّ نسافر مسيرة مائة كيلومتر إلى مدينة أخرى حيث سيعتكف المؤمنون.

ركبت سيارة نقل مزدوج، ووصلت إلى المكان الذي كان من المقرّر أن أجتمع فيه بمن سيرافقونني في هذه الرحلة المباركة، وبينما أنا أنتظر رنّ الهاتف: “السلام عليكم، أكمل الطريق وحدك، فمرافقوك قد عرضت لهم العوارض، وحبستهم الأعذار.”

“الله أكبر… البيت ما زال قريبا. أأعود من حيث أتيت أم أكمل وحدي؟ ما تقول يا فلان… يا ابن الثمانين سنة… أتمضي إلى ربّك أم تعود إلى غنمك وزرعك؟ اختر”

واستغلّت نفسي الفرصة وأخذت تسوّل لي وتزيّن لي الرجوع: “أنت وحيد… وهذا أوان حرث الذرة… والله لا يكلّف نفسا إلاّ وسعها، والعبادة يمكنك القيام بها في بيتك وقرب أهلك، والاعتكاف سنّة وليست بواجب…”

وبين عشيّة وضحاها أصبحتُ فقيها أفتي في النوازل…

ما أخطر هذه النفس وما أدهاها… وما يعينك عليها إلا وليّها ومولاها.

فقلت لها: “والله لأسوقنّك سوق الأغنام… ولأجرّنّك جرّ العبد الآبق”

وتخطيت- بفضل الكريم الوهاب- هذه العقبة أيضا، وانتفضت كمن يصارع شخصا… حتى إنّ بعض من رأوني ظنّوا أنّي مجنون…

ركبت سيارة أجرة لأصل سريعا، إذ الحافلات تتأخر… كنت أودّ أن أدرك الإفطار في المعتكف… لكنّي حينما وصلت واتصلت أُخبِرتُ بأنّ الدخول لن يكون إلاّ بعد صلاة التراويح، فقلت في نفسي: “وهذه –والله-  الثالثة”.

بدأت أفكّر أين سأذهب… أين سأفطر… وتدخّلت الخبيثة مرّة أخرى –في محاولة يائسة بائسة أخيرة- علّها تردّني إلى البادية: “أهؤلاء إخوة… أهؤلاء هم من ستعتكف معهم… يعلمون بأنّك قادم من مدينة أخرى ثمّ يتركونك بلا إفطار… أهكذا تكون الضيافة… أهكذا كنت ستستقبلهم لو زاروك في البادية… أتذكر يوم زارك فلان وفلان ماذا أطعمتهم… وكيف أكرمتهم… والآن هم يستكثرون عليك “زلافة ديال لحريرة”؟”

فجأة رنّ هاتفي وإذا أحد الأحبّة يسألني عن مكاني فأخبرته. قال: “انتظرني… أنا قادم”. أتى مسرعا… لم يتركني للوسواسة تنهشني… أركبني سيارته، وأدخلني بيته، وأكرم مثواي. ثمّ حملني حتى أدخلني المعتكف.

سبقت الجميع… وكنت أول من التحق… فإذا أنا في بيت فسيح، وفراش وثير، وغطاء وفير… لكني كنت وحدي… وجاءت الوسواسة مرّة أخرى تحرّك ما يمكن تحريكه، وتلعب على أوتار الفتنة: “جئت وحدك أيها الأحمق… الناس تقضي مصالحها وأنت تركت أشغالك وأتيت… أين هم هؤلاء الذين سيعتكفون معك؟”

قلت: “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم” ثم قمت فصليت ركعتين. واستقبلت القبلة وأخذت أذكر الله، كنت في الأمام وخلفي روضة حمراء شاسعة.

همت في ذكر ربّي… وسافرت في العوالم مع الكلمة الطيبة المطيّبة… لا إله إلا الله… لا إله إلا الله… لا إله إلا الله. يفنى العبد ويبقى الله…

خنست نفسي، وانشرح صدري، وغبتُ عن الوجود في حضرة ربّ الوجود… بعد ساعة سمعت خلفي صوتا يقول: “سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله ربّ العالمين”. التفتّ فإذا نصف البساط الأحمر قد غطي بألوان الورد الزاهية… أبيض وأخضر وأزرق وأسود… يلبسها المؤمنون جلابيب وقمصانا.

بُهتت نفسي… وضحك قلبي حتى بدت نواجدي… قمنا نتعانق ونسلّم على بعضنا، ثمّ افتتحنا اعتكافنا وانطلقت الرحلة.

في اليوم التالي امتلأ الفضاء الواسع بأحبّة تشعّ وجوههم نورا، وتفوح قلوبهم طهرا، وتلهج ألسنتهم ذكرا…

وفي كلّ يوم كنت أزداد تعلقا بالمكان ومن فيه، حتى أنّي نسيت الأهل والمال والأشغال. وفي كلّ ليلة كان هناك حبيب يزورنا فيزوّدنا، ويسقي جذورنا، وفي كلّ سحر كان هناك اتصال مباشر بربّنا. هو يقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ ونحن نقول: نعم يا ربّ نحن. هل من مستغفر فأغفر له؟ يا ربّ نحن. هل من سائل فأعطيه؟ يا ربّ نحن…

وطيلة النهار كنّا نتقلّب في نعم ربنا… كلّما رفعت مائدة من موائد الفيض الإلهي وضعت أخرى… كنّا نُطعَم سائر النهار ما يغذّي أرواحنا، ونُطعَم عند الإفطار ما يملأ بطوننا.

كانت الموائد توضع بانتظام… مائدة الذكر الحكيم تلاوة وحفظا وتعليما… مائدة الصلاة على الحبيب صلى الله عليه وسلّم تسليما، وزاده تشريفا وتكريما… مائدة الكلمة الطيبة لا إله إلا الله… بالإضافة إلى مقبّلات ومكسّرات بين الفينة والأخرى.

تقلّبنا في نعم المولى ليلا ونهارا طيلة عشرة أيام… ثمّ جاء يوم الختام… فما استطعنا فراق بعضنا ولا أطقنا ألم الوداع… فسالت بنات العيون وأجهش بعضنا بالبكاء. وتعاهدنا أن نبقى على العهد وألاّ نضيّع الورد.

وحينما خرجت من المعتكف وقفلت راجعا إلى دنيا الكدر والفتن، تذكّرت أبيات شعر ذكرها سيدنا أبو بكر -رضي الله عنه- لما رأى كرم الأنصار وحسن استقبالهم واستضافتهم لإخوانهم المهاجرين. فقام خطيبا وقال والله ما مثلنا ومثلكم يا معشر الأنصار إلاّ كمثل طفيل الغنوي إذ يقول:

جَزَى اللَّهُ عَنَّا جَعْفَرًا حِينَ أَزْلَفَتْ                             بِنَا نَعْلُنَا فِي الْوَاطِئِينَ فَزَلَّتِ

همُ خلطونا بالنفوس وألجأوا                                إلى حجرات أدفأت وأظلت

أَبَوْا أَنْ يَمَلُّونَا وَلَوْ أَنَّ أَمَّنَا                                    تُلاقِي الَّذِي يَلْقَوْنَ مِنَّا لَمَلَّتِ

وقالوا هلمَّ الدارَ حتى تبينوا                                  وتنجَلي الغَمَاءُ عمَّا تجلَّتِ

ومن بعدما كنا لسلمى وأهلها                                قطيناً وملتنا البلادُ ومُلّتِ

سنجزي بإحسانِ الأيادي التي مضت                       لها عِندنا ما كبَّرَت وأهَلّتِ

فجزى الله عنا خيرا من استقبلونا وآوونا وصبروا علينا ونصحونا وعلمونا وخدمونا.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله و صحبه و حزبه.