قصتي مع الصلاة

Cover Image for قصتي مع الصلاة
نشر بتاريخ

نشأت في عائلة محافظة تحب الله وتحب الخير للناس؛ وكان والدي مولاي أحمد من الأدارسة الذين يحبون كل أنواع الذكر. كنت أراه يصلي ويصوم ويتصدق؛ وكان يحثني على ذلك، لكني لم أفهم عنه كثيرا، فقد كنت صغيرة، غير أن صورة الرمز المقدس تتراءى لي دائما: الصلاة وما أدراك ما الصلاة.

عندما كنا ندرس بالسنة الأولى إعدادي، دعتني أختي الصغرى لأصحبها إلى جلسة ما يسمى عندنا بـ”الفقيرات”، فقبلت على مضض لأنني لم أكن أضع الحجاب حينها، واستحييت أن يرين ذلك مني، وضعت خمارا أو ما نسميه بـ”الشال”، ولبست لباسا يكبرني أعواما، وانصرفنا سويا إلى تلك الوجهة: جلسة الفقيرات.

عندما دخلنا رأيت لأول مرة في حياتي جمعا غفيرا، وسمعت همهمة في كل مكان، سلمنا على الجموع، ثم جلسنا في وضعية كأن على رؤوسنا الطير؛ الصمت مهيب في داخلي، سبحان الله! بدأت أتمعن في الوجوه، كانت كل واحدة من هؤلاء النساء تعطيني انطباعا أوليا عن مدى فرحها بالله؛ كن مبتهجات بذكر الله.

بعدما استقر بنا المقام انتقل الجميع إلى الذكر الجماعي؛ وبدأت الأصوات تتعالى: “هو.. هو.. هو.. سبحانه.. هو..” حتى سقطت إحداهن أرضا. كانت جلسة متعبة قليلا جسديا ولكنها مريحة نفسيا.

بالنسبة لي ورغم ذلك؛ لم أفهم أن علي الاستمرار في الذكر والصلاة. نزعت الشال في اليوم الموالي ولبست الزي الرسمي للمدرسة، ولم يبق من جلسة الأحد سوى الذكرى الجميلة.

متی ستداومين على الصلاة؟ سؤال كانت تطرحه علي أمي دائما وكنت أجيبها بالدارجة: “الله يهديني”.

كان منظر السجود يستهويني، وهمهمات والدي أثناء الصلوات تأسرني، ولكن رغم كل ذلك لم أكن أعي أن علي المداومة على أداء الصلاة وبشكل مستمر، كنت أصلي ولا أداوم عليها إلا في مناسبات الحاجة إلى المدد الإلهي؛ فقد كنت أحافظ عليها أيام الامتحانات؛ خشية أن يعاقبني الله بنقطة ضعيفة إذا لم أصل قبل المجيء إلى الامتحان ! كنت أحب الصلاة لأنني تذوقت حلاوتها، ولكن كانت الرسوم المتحركة والأفلام المغربية وسهرة يوم السبت على شاشة التلفزيون ومنتدى الكتاب مع الصديقات.. تشدني وأجد لها حلاوة أكبر من حلاوة الصلاة.

في أحد الأيام عندما كنت أدرس بالسنة الثالثة إعدادي طلبت مني إحدى صديقاتي مرافقتها إلى المصور الفوتوغرافي، لأخذ صورة لها بعد العودة من المدرسة. عندما دخلنا إلى غرفة التصوير شاهدت لباسا للصلاة معلقا هناك، فقلت لصديقتي: هلا انتظرتني لأخذ صورة بهذا اللباس، افترشت الدباغ “الهيدورة” ورفعت يدي للدعاء، وقلت للمصور: سأبدأ في الدعاء وعندما تراني أكثر تركيزا اضغط على الكاميرا. ضحكت صديقتي وأجابتني: الله يهديك، فأمنت على دعائها.

كانت أمنية الصلاة أقصى ما كنت أحلم به آنذاك؛ ولكن كنت أتغافل وأنقطع عنها مدة شهر أو شهرين.. وكانت صورة المختبر وقد ارتديت الحجاب ورفعت يدي إلى الأعلى وأنا أناجي ربي ألذ وأعظم وأجل صورة في ذهني، كنت أتمنى أن أصلي ولكنني لم أجد من يصحبني إليها، لم أجد من يصلي معي؛ كان كل واحد يصلي بمعزل عن الآخر في العائلة، وحتى صديقاتي كن يصلين كل واحدة بمفردها، وربما اختبأن أثناء تأديتها؛ حتى لا يقال عنهن أنهن أكبر سنا، فالصلاة للكبار؛ هكذا كنا نظن.

في السنة الأولى من التعليم الثانوي، وعندما رحلنا من الشرق إلى الجنوب، صحبت بنات كن لا يفرطن في صلاتهن، وكنت استحيي من دخول مسجد الثانوية لأنني لم أكن محجبة، فكنت أنتظرهن في الخارج حتى ينتهين من الصلاة.

أهدتني إحداهن يوما كتاب “التبرج” للكاتبة نعمت صدقي، كتب بلهجة غاضبة على النساء؛ ولكني تأثرت به كثيرا، فبكيت على تفريطي في دين الله وفي الصلاة. عرفت حينها أن الصورة المخبرية/الأُمنية لم تكن لتتحقق إلا بوجود صحبة تعينني على التنفيذ. من حينها ارتديت حجابي وتذكرت قصة إسلام سيدنا عمر رضي الله عنه؛ كيف اغتسل قبل لمس الصحيفة التي كانت تقرؤها أخته فاطمة رضي الله عنها، لطالما سمعتها من والدي رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته، فاقتدیت به واغتسلت وارتديت الحجاب، وصليت، ولأول مرة في حياتي أتذوق لذة أكبر من لذة ما كان يشدني قبلا، كانت بلسما ونقاء ودخولا على ربي من بابه الواسع. الصلاة راحة، جهر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعا بلال إلى الصدع بالأذان وهو يقول صلى الله عليه وسلم: “أرحنا بها يا بلال”.

الآن يا حبيب الله فهمت معنی تلك الكلمة الشريفة، الآن فقط تذوقت تلك الراحة، وإنها لراحة أبدية، لو داوم عليها شبابنا اليوم ما تعبوا ولا حزنوا ولا شقوا.

لم تعد الصلاة مقايضة بيني وبين خالقي؛ بل أصبحت حاجة ملحة لتسكن روحي. رأيت النور في سجودي، فتذوقت حلاوة اللقاء، باتصال دائم لم ينقطع.