في العشر الأواخر من رمضان المبارك، أسترجع ذكريات جميلة لأول يوم صمته في حياتي. كنت طفلة صغيرة لا أقوى على الصيام، وكانت أمي الغالية بحكمتها تحببه إلي وتشوقني إليه، وتحرص أن تدربني عليه برفق وتدرج؛ فأصوم النصف من كل يوم، حتى إذا استشعرت مني ضعفا أو وهنا أقنعتني بالإفطار لبقية اليوم على أن تخيط لي أنصاف الأيام التي صمتها لأستكمل أجر اليوم.. وكان في حيلتها تلك قصد وغاية؛ فبقيت على حالي تلك إلى أن جاءت ليلة السابع والعشرين من رمضان، وهي الليلة التي تحتفي الأسر المغربية بأبنائها الصغار الذين أتموا صيام اليوم كاملا، تشجيعا لهم وتحفيزا على هذه العبادة العظيمة، فكنت واحدة منهم.
كانت فرحتي بصيام ذلك اليوم كبيرة جدا، ما زلت أتنعم بها إلى الآن، وكلما استرجعت أجواء الاحتفاء والفرح بصيامي، كلما تحركت في قلبي مشاعر الحب لأسرتي التي ربتني على تعظيم شعائر الله تعالى وعلمتني أن ذلك من تقوى القلوب.
كانت أكثر الناس فرحا بي جدتي التي هيأتني في حلة عروس وقت الإفطار، وكانت تردد على مسامعي كلاما ثقيلا لم أكن أدرك كنهه: “فرحي وسعدي بصيام بنتي، حياني ربي حتى شوفت غلتي”، فهمت من كلامها أن المؤمن لا تكتمل سعادته ولا يهنأ باله ولا يجد راحته إلا بطاعة وصلاح أبنائه وأحبابه.
أما إن أردت التحدث عن السلم الذي صعدته بعد الأذان؛ فلن تسعفني العبارات والكلمات لوصف شعوري حينذاك، فقد كان عظيما، يملأ القلب سعادة وحبورا وعزة. كان السلم بالنسبة لي في تلك المرحلة يدخل ضمن الطقوس والأعراف التي تعبر بها بعض الأسر عن فرحها واحتفائها بصيام الصغار، وهي من العادات الحسنة التي تترك أثرا جميلا في نفوسهم.
ومع مرور الوقت، ومع الصحبة الطيبة، أدركت أن السلم صعود في مراتب الدين من إسلام إلى إيمان فإحسان. وأدركت أنه رمز للترقي في مدارج الإحسان بمعية الذاكرين والذاكرات.
أما صيامي في سن البلوغ، فكان يحمل معنى آخر مختلفا جدا.. معنى الشوق إلى عبادة الله والالتحاق بركب المكلفين من أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنى الطمع في أن ينعم القلب بالتقوى. وهذا ما تشربته من قلب أبي الحبيب الذي كان يردد دوما على مسامعنا قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، يذكرنا بوجوب الصيام وأجره العظيم ويقول: من كان يحب العطاء الأوفر والأعظم، فقد وعد الله سبحانه وتعالى بذلك الصائم.
كان أبي يعلمني أحكام الصيام وفرائضه وسننه، ويرغبني في تعجيل القضاء بعد رمضان، بل ويشجعني على ذلك فيصوم معي نوافله عند القضاء، وكان في ذلك عون لي وأنس بأبي وفرح وسعادة بالطاعة.
فلله ذر أسرتي، كيف قربتني من ربي وخالقي.