أربكت عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023 منظومة الأمن الإسرائيلي، وأكدت أن خيار المقاومة هو الحاسم في الصراع مع الاحتلال، وذكرت المسلمين بقضية الأقصى مسرى الحبيب عليه أفضل الصلاة والسلام، بل ذكرت العالم بقضية شعب يعاني لسنوات من وطأة الاحتلال وانتهاكه لحقوقه.
ومنذ انطلاق طوفان الأقصى والمجازر لم تتوقف في حق المدنيين الفلسطينيين، لم تسلم لا المدارس ولا المستشفيات ولا دور العبادة ولا خيام النازحين من القصف الهمجي، مع حصار مشدد منع وصول الماء والأغذية والأدوية في ظل تواطؤ سافر للأنظمة الغربية وصمت مخز للأنظمة العربية.
لم يملك الشعب إلا صوته للخروج إلى الشوارع للتعبير عن رفضه لهذه الجرائم التي تمارسها آلة الحرب على مرأى ومسمع من العالم، وعن إدانته للإبادة الجماعية التي يتعرض إليها قطاع غزة وعن استنكاره للصمت والتواطؤ الدولي والخذلان العربي الرسمي، ولسياسات التطبيع المخزية لبعض الأنظمة العربية رغم ما يقع من مآسي ومجازر وانتهاكات صارخة لحقوق الشعب الفلسطيني.
كنت فيمن يخرج للتعبير عن هذا الرفض، أصرخ حتى يبح الصوت وتخنقني العبرات ويعتصر القلب ألما لِما نشاهده من مشاهد يعجز اللسان عن وصف همجيتها وشراستها، ويزداد الألم عندما نقف مكتوفي الأيدي، لا نملك إلا أصواتا، وإن كانت كذلك جهادا، للتعبير عن نصرتنا ومساندتنا للشعب الفلسطيني.
اشتد الألم، فحملت القلم عسى أن يخفف ما بي، أردتها كلمة تخلد بطولة شعب قاوم ولم يستسلم، كلمة يعتبر منها كل مظلوم صاحب حق أنه ما ضاع حق وراءه طالب، وكل جبار ظالم، وأنه مهما طال الزمن فإن الله يمهل ولا يهمل وأن عاقبته الهلاك والخسران.
وقعت في حيرة، عن أي شيء أكتب، هل أصف ما يحدث من تدمير وقتل وأسر وتعذيب في حق المدنيين، فما تحمله الصور، والتي تصلنا يوميا عبر الشاشات، من دماء وأشلاء مبعثرة هنا وهناك، ودموع الأيامى والثكالى، وأطفال يتضورون جوعا، تغني عن مئات المقالات، فهي صور تجسد حجم المعاناة وتفضح همجية المعتدي وسكوت المتواطئ وخذلان القريب والبعيد؟
أم أكتب عن أبطال غزة الذين علمونا العزة والإباء، فسطروا بدمائهم الزكية ملحمة يذهل العقل عن استيعابها، ملحمة لم تنسج تفاصيل أحداثها مخيلة كاتب نِحْرير أو شاعر ملهم، ولم ترسم ملامح أبطالها ريشة رسام مبدع، ملحمة أبطالها حقيقيون وليسوا كأبطال أساطير الإغريق؟
شددت العزم على الحديث عن هؤلاء الأشاوس، فتوجست خوفا ألا تسعفني اللغة، ليس لعقمها فهي كما قال حافظ إبراهيم “بحر في أحشائه الدر كامن”، ولكن بضاعتي مزجاة من بلاغة اللغة وبيانها ومفرداتها، استدعيت ما أعرف من بديعها، تفاجأت، جاءتني العبارات تترى، تزينت كعروس تزف إلى عريسها، تتنافس لأختار أيها يجسد ويعبر عن أبطال غزة، كل عبارة تريد أن يكون لها شرف الحديث عن المقاوم الحر الذي رفض الذل والانكسار وأبى إلا أن يستمر في معركته ليُعَلم العالم بأسره معنى البطولة والفداء.
لا أدري هل أُعجب بروعة الكلمات أم أعجب بمن وصفت، اعتذرت لعبارتي، “ما أبدعك ما أبلغك ما أروعك“، ولكني سأبحث عن وصف لهم من آي الكتاب، فما أدق وصفه وما أبلغ بيانه، فانسحبَت إجلالا لتترك المجال لقوله تعالى: “مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا” (الأحزاب: 23).
إنهم رجال في زمن عَز فيه الرجال، والرجولة مواقف ولا تتعلق بعمر أو جنس، فقد رأينا أطفالا ونساء وشيوخا وشبابا يعلنونها صرخة مدوية في وجه العالم وضد الكيان الغاصب؛ أنهم لن يتخلوا عن قدسهم وعن مسرى نبيهم وعن حقهم في أرضهم رغم التنكيل والتدمير والأسر والتقتيل والتجويع و… صرخات اختلفت ألفاظها ومعناها واحد: “لن نخون قضيتنا ولن نستسلم”.
فالرجولة صفة من أوفى بعهده مع الله وباع نفسه لله ولم يرض بديلا عن مرضاة ربه وجناته، رجال تعَجب القريب والبعيد من صمودهم وصبرهم وتساءلوا عن كُنه إقبالهم على الحياة، ولكن ليست أية حياة، بل حياة عز وكرامة دونها الموت والشهادة في سبيل الله، وما سر ذلك إلا أنهم تربوا وتخرجوا من المدرسة المحمدية التي أنجبت رجالا، لا يزال التاريخ يخلد سيرتهم كأمثال طلحة وأم عمارة ومعاذ ومعوذ ابني عفراء… وتطول اللائحة من أسماء صحابة وتابعين وتابعيهم، ورجال المقاومة خير دليل أن هذه المدرسة ما زالت تخرج رجالا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، في وقت ظُن أن هذه الأمة قد عَقمت عن ولادة الرجال.
رجال، دليلهم ومنهاجهم كتاب الله، فكما صَنع “الجيل الفريد”، جيل الصحابة، فلا يزال يصوغ لنا رجالا رهبانا بالليل فرسانا بالنهار، منه استمدوا حياة قلوبهم فأصبحت تعيش بالله ولله، لا تُثنيهم المصائب عن مواصلة طريق الجهاد ولا تحملهم الفواجع على الانتكاس.
كان الصدق صفتهم، صدّقوا بوعد الله فصدقوا عند اللقاء وثبتوا عند المُلِمات، ووفوا بالعهد، هانت عليهم الأرواح والأموال والأهل، فصارت كلمة “مَعلش” تعبيرا عن استرخاصهم المهج في سبيل الحق، وعن صلابتهم رغم همجية العدو وشدة بأسه، كل هذا أرغم العدو على الاعتراف أنه أمام شعب لا يقهر، فرجاله ونساؤه وأطفاله وشيوخه رجال بما تحمل الرجولة من صفات كمال الأخلاق.
ومن الرجال من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر وهو على العهد، فسنة الابتلاء والتمحيص ماضية إلى أن يظهر الحق ويزهق الباطل، وشرط التمكين إيمان وعمل صالح بإعداد القوة وأسبابها، ينتظرون بدون جزع، لأنهم أدركوا أن الشهادة حياة في جنان حيث الشهداء عند ربهم يرزقون فرحين مستبشرين، فأصبح الواحد يعزي نفسه ويثبت غيره بكونه “مشروع شهادة”، فإما “نصر أو استشهاد” ولا خيار ثالت لهما.
رجال شكلوا نماذج عالية ترنو النفس إلى الاقتداء بها، فحُقَّ للتاريخِ أنْ يخلد سيرهم وحقَّ للمسلمينَ أن يفخروا بمثلِ هؤلاء، فهم رجال رسموا للأمة بداية الخروج من داء الوهن وحب الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة على منهاج النبوة، وسجلوا فصولا من الانتصار على العدو، وما كان ليحدث لولا انتصارهم على النفس وشهواتها وإخضاعها لخالقها.
سيفخر كل فلسطيني بانتمائه لهذا الجيل المبارك، ويردد قول الفرزدق:
أولئِكَ آبائِي، فَجِئْني بِمثْلِهِم … إذا جَمَعَتْنا يا جَرِيرُ المَجَامعُ