في كل بيت وكل نفس ترك طوفان الأقصى بصمته وأثره، وفي حياة كل منا كانت له قصة تُحكى وتروى، ليتعلم منها الناس ويترسخ في أذهانهم أنه حدث استثنائي، فتحٌ رباني، آية من آيات رب الأرباب في كونه الفسيح.
أما قصتي مع طوفان الأقصى فتعلقت بجانب العلم والبحث؛ حيث كنت في تلك الفترة أبحث عن موضوع لرسالة أقدمها لنيل شهادة الماستر في العلوم الشرعية في تخصص قواعد الاجتهاد والتنزيل، وقد كان هدفي الأسمى في طلب العلم -كما هو هدف كل طالب علم مسلم- هو أن أنفع به أمتي ومجتمعي ونفسي قبل ذلك، وتكون لي بصمة في عزة ورقي أمتي ونهضتها، لذلك عزمت على عدم بحث أي موضوع سيكون الرف والتنظير مآله، بل أردت أن يكون بحثا قابلا للتنفيذ والتطبيق والتنزيل على واقع الأمة ليحصل لها النصر والتمكين، فكنت قد وقفت على بعض المواضيع وأهمها موضوع (مقصد إعداد القوة وتطبيقه على الواقع المعاصر).
فما زلت أتردد في اختياري لهذا الموضوع، وأقيس مدى فائدته العلمية وعلاقته بما تعيشه الأمة من ضعف وهوان وتراجع على معظم الأصعدة. وبينما أنا كذلك مترددة؛ إذ فاجئني أبطال المقاومة البواسل بعمليتهم الجهادية القوية العظيمة يوم 7 من أكتوبر 2023م، وأبهروا العالم بما أقدموا عليه من بطولة، مشروعة، محسوبة، مضبوطة، دقيقة، عكس ما يروجه المنافقون في محاولتهم اليائسة لتبخيس ذلك الجهد والتخطيط المتين؛ تلك العملية التي جعلت العدو الصهيوني المحتل الغاشم يفقد توازنه ويهوي في دركات الهزيمة والتشتت والانكسار، بعد أن كان يتبجح بالقوة والمنعة وصلابة استخباراته وجيشه، وما كان ذلك ليحصل من المجاهدين الأبطال إلا بعد إعداد القوة اللازمة لذلك بشكل جيد ومستمر ودقيق، عبر سنوات وسنوات من العمل والجهد والتضحية، فكانت النتيجة باهرة وقوية.
كانت تلك شرارة أنار ﷲ بها في عقلي وقلبي مصباح اليقين بأن (مقصد إعداد القوة) هو الموضوع الذي أبحث عنه، وأنه هو البحث الذي يناسب المرحلة وينفع إن شاء ﷲ الأمة في إعادة مجدها وعزتها، وبه تتخلص من قيود الذل والاستعمار والاستكبار العالمي، وتنتصر على أعدائها المتربصين بها.
وكلما مرت الأيام وتضاعف رصيد المقاومة من النصر والتفوق على العدو الصهيوني البغيض وإفاقة العالم من غفلته التي أدخلته فيها السردية الصهيونية الكاذبة، تحول ذلك كله إلى زيادة إيمان ويقين أن مقصد إعداد القوة والعمل على امتلاكها في كل مناحي الحياة الإنسانية؛ إن على صعيد الأفراد لتخريج مجاهدين ذو عقيدة قوية راسخة لا تهاب العدو مهما عظمت قدرته ودججت جيوشه بالأسلحة، وإن على صعيد مجالات الدولة المختلفة؛ المالية والسياسية والاقتصادية والعسكرية… وذلك لتهيئ دول إسلامية قادرة على الصمود أمام كل التهديدات والضغوط الصهيو-أمريكية، هذا الاعداد الشامل هو الحل لما تعانيه الأمة من ضعف وهوان.
وقد عزمت على أن مساهمتي في هذا الطوفان المبارك لن يكون إلا ببحث يؤصل لهذا الإعداد، ويفتح له بابا ليكون مُفعلا في الاجتهاد الفقهي المعاصر، ويجعل ما قامت به المقاومة الفلسطينية الباسلة هو المثال الذي يحتذى به في كل الدول والمجالات والأصعدة حتى تتمكن الأمة من الوعي أولا بواقعها، والنهوض ثانيا لتغييره مهما استحكمت حلقات التضييق والمعاناة، فالله مع الحق وإن قل عتاد أهله، والنصر من عنده سبحانه القوي المتين.
والحمد لله الذي وفقني لإتمام رسالتي ومناقشتها والذي عنونتها بعنوان: (إعداد القوة بين النظر المقاصدي والتطبيق الفقهي)، وقد قمت بإعدادها في غمرة المشاهد المؤلمة التي تأتينا من غزة العزة، فلم أكن أتوقف عن مشاهدتها والدعاء للشهداء بالقبول وللمقاومة بالنصر، بل كان ذلك حافزا لي على إتمام ذلك العمل، وكان رجائي أن يكون مساهمة في ذلك الجهاد بما تيسر لدي من علم ومعرفة ووقت، وإن لم أستطع المشاركة بالنفس والمال.
وأخيرا فطوفان الأقصى حكاية ستبقى أجيالا تروى، وتدون في أسفار التاريخ، وسيبقى تأثيرها في النفوس والواقع قرونا بإذن ﷲ يستمد منها المسلمون العزم والقوة على دحر العدو والتنكيل به وإذاقته ألوان الخزي والذل، وسيكون لها أثر كبير في تغيير الوعي المجتمعي الإسلامي والعالمي، تمهيدا لإنفاذ كلمة ﷲ في الظالمين بالهزيمة والخزي، وتتويجا للصابرين المؤمنين المجاهدين بالنصر والتمكين.