وأنا ألف الشال حول عنقي وأترك أطرافه تنسدل على الجانبين، ترجع بي الذاكرة إلى بداية طوفان الأقصى حيث الكثير من الناس لم يصدقوا ما حصل، وكأننا برمجنا ذواتنا، أو تمت برمجتها بفعل فاعل، على أن الاحتلال يستحيل أن يتلقى ضربة عسكرية تخترق مواقعه المحصنة وتأسر جنوده وتهز كيانه.
فبخلاف الأصباح العادية، فوجئت بخبر تتداوله وسائل التواصل، في الأول ظننته مزحة من بعض المشاكسين، وبتكراره بدأت أحاول إقناع نفسي بأن الاحتلال قد تعرض لضربة عسكرية مؤلمة وناجحة من طرف المقاومة. هرولت لقنوات الأخبار المعتمدة لأتبين الخبر اليقين. تسمرت عيناي على شريط الأخبار، لأكتشف نجاح المقاومة الفلسطينية في اختراق جميع الحواجز البشرية والالكترونية والإسمنتية وتلقينها العدو درسا لن ينساه، لقد أوغلت فيه قتلا وأسرا، ورجع المقاومون سالمين غانمين إلى قواعدهم، وهم يعلمون أنهم قد تطاولوا حتى صفعوا أرنبة العدو ولطخوا كبرياءه الإجرامي، ومرغوا أنفه في التراب.
لقد اختارالإنسان الفلسطيني المظلوم والمكلوم أن ينهج طريق الفعل والمبادرة والاقتحام بدل الانتظار والسلبية أو الهروب عبر “خزان” شاحنة مهترئة، ليكون مصيره مزبلة التاريخ كما صورذلك الروائي الفلسطيني غسان كنفاني في روايته “رجال في الشمس” حيث كان مصير الثلاثة الذين اختاروا الهروب من جبهة المقاومة ومغادرة أرض الوطن الموت اختناقا في خزان الشاحنة، ولما وجدهم السائق رمى جثتهم في مزبلة على قارعة الطريق قائلا: “لماذا لم يدقوا الخزان؟”. لقد اختارت المقاومة الفلسطينية أن تحطم “خزان” التواطؤ والتهويد والتطبيع لتعلن للعالم مظلوميتها، ولتوحد أحرار العالم على قضية واحدة: تحرير فلسطين.
ذلك اليوم، السابع من أكتوبر2023، سيظل ماثلا أمام عيني، إذ الأحداث الجسام والمعارك الكبرى تفعل فعلها في الإنسان، في لحظات من الزمن، فتشعر في قرارة نفسك بذلك التحول الفكري والوجداني. نعم، إنه درس بليغ في تربية النفس على التأدب مع الأقدار الإلهية، فبعد عقود من الغطرسة الصهيونية تسلل إلى نفسي، على غفلة مني، أن هزيمة الاحتلال أضحت من المستحيلات، رغم قناعتي أنه زائل لا محالة، وأن الظلم لا يدوم، فذكرني هذا الحدث بما ترسخ في قناعاتي وغطته الهزائم والانتكاسات. فكثرة النكبات أفقدت الكثير من الناس الأمل في انجلاء غيمة الظلم وزوال الهوان لولا تلك الأصوات المقاومة التي أبت الصمت، وتلك السواعد الباسلة القابضة على الجمر في زمن الخذلان والهزيمة، والتي أبقت القضية حية في الوجدان، مرفوعة رايتها في كل ناد، متجددة عبر الأجيال، متوثبة في وجه كل عدو وخائن وغادر، سالكة طريق الجهاد حتى تحقيق النصر.
لقد كانت كثرة الأحداث التي أعقبت الطوفان مرآة تعكس ذلك الفرح الذي ينبعث من أعماق نفسي، رغم بطش العدو وشراسته وجنونه، قد يقتل، وقد يدمر، لكنه لن يصل إلى تركيع تلك الهمم الصامدة، فمن تسلق قمة العزة يستحيل أن ينزلق إلى الضحالة وقد تنسم رحيق الحرية والكرامة، يرتفع الشهداء تلو الشهداء وشارات النصر مرسومة بدمائهم على جباههم، هي موتة واحدة فلتكن في سبيل الأرض والوطن، و”لا نامت أعين الجبناء” كما قال خالد بن الوليد رضي الله عنه وهو يموت على فراش الموت كما تموت البعير وقد قضى حياته بين السيوف والرماح.
شيء من تلك الكرامة انطلق من غزة العزة كرائحة بخورأصيل ليتسلل عطرها إلى أنوف الأحرار في هذا العالم، وقد استنشقت ذلك العطر الأصيل مثلي مثل جميع الشرفاء المتوثبين ليوم تشرق فيه شمس الحرية. فكنت أتابع الأحداث، وأدون، وأسجل حضوري في الوقفات التضامنية مع الشعب الفلسطيني حاملا العلم الفلسطيني بين أحضاني، رافعا إياه إلى السماء حتى أحس بيدي تنفلت مني كبالون انفلت من يدي طفل صغير متجها إلى السماء وقلبه معه. ألوانه الزاهية أبت إلا أن تمتزج بأنفاسنا، الأحمر لون الدماء الزكية التي سقت أرض الإسراء وما زالت، الأبيض لون السلام والصفاء الذي يعكس الإيمان الراسخ بالقضية وعدالتها، صفاء لا تكدره همجية العدو ولا خيانة الصديق، الأخضر لون الأرض التي لا تنازل عنها فإما أن تنتصب فوقها ثابتا ومقاوما، وإما أن تحتضنك في أعماقها شهيدا زكية دماؤك، الأسود لون الرمح والقذيفة والرشاش وهي تقاوم الظلم. ألوان العلم الفلسطيني أنهار أربعة متدفقة تصب في حوض الحرية التي ينشدها الشعب الفلسطيني. فلا عاشت تلك الأنفس الخائنة لهذا العلم ولا هنئت.
ما أشبه شموخ الراية باللواء في ساحة الوغى ومعترك النزال، وما أشبه حامليها بجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يشد بكلتا يديه على اللواء في معركة “مؤتة” ضد الروم في السنة الثامنة، وما ترك اللواء حتى قطعت اليمنى ثم الثانية وما استسلم حتى فاضت روحه، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم بجعفر الطيار لأن الله تعالى أبدله بجناحين، بعد فقد يديه، يطير بهما في الجنة.
من بركات السابع من أكتوبر أن أدخل إلى البيت فأجد بنتيَّ جالستين إلى المنضدة وقد امتشقت كل واحدة منهما أقلامها الملونة كما يستل الفارس المغوار سيفه من غمده، وانهمكتا في رسم العلم الفلسطيني، تلقائية وعفوية هذا الإنجاز الفني يعكس مدى تأثرهما بما يجري في أرض غزة، فيلتفتان إلي ليستطلعا رأيي في ما خطت أناملهما الصغيرة، فأستحسن إبداعهما مبتسما ومشجعا، وهما لا يدركان أنهما يرسمان تاريخ المستقبل من جديد، إنها الطفولة تتسلم الراية لتمضي في درب الدفاع عن أعز أرض وطئها الأنبياء وأشرف بقعة بوجود المسجد الأقصى فيها. إنها معركة أجيال لن تتوقف إلا بتحرير الأرض والصلاة في المسجد الأقصى. لقد راهن الاحتلال الصهيوني على نسيان القضية بذهاب جيل الانتكاسة ورحيل معاصري النكبة ليأتي بعده جيل مطموس الهوية، تشكله الدعاية الصهيونية وفق أهدافها وأطماعها. وبفعل طوفان الأقصى استرجعت القضية حياتها وعنفوانها وتألقها.
إن العلم الفلسطيني أضحى اللوحة الفنية التي اجتمع عليها أحرار العالم باختلاف أديانهم وجنسياتهم ولغاتهم، إذ أصبح أيقونة الحرية وفسطاط ذوي الضمائر الحية، وما تنقله وسائل الإعلام شاهد على استنشاق العلم الفلسطيني لنسيم الحياة، حيث أصبح يتصدر المسيرات التضامنية مع غزة ويزين الوقفات الجماهيرية ويرصع فضاء الجامعات العلمية، بل إنه أصبح رمزا للتضامن وفاضحا لكل من والى وساند العدوان. ولن أنسى فيديو امرأة بريطانية منعها حرس أحد المتاجر من الدخول لا لشيء إلا لأنها تزين معطفها بدبوس يحمل ألوان العلم الفلسطيني.
وإلى جانب العلم تنتصب الكوفية الفلسطينية عالية ثابتة برمزيتها وحضورها، فقد غدت الوشاح الذي يختزل تاريخ الأرض وكأنه زر الدخول لموسوعة تاريخية ثقافية تروي حكاية شعب مستضعف وأرض مغصوبة واحتلال فظيع، وهذا سر رفعها في التظاهرات والتجمعات، حيث أصبح هذا الشال رمزا للمقاومة منذ أن توشح به مقاومون فلسطينيون ضد الاحتلال البريطاني، ومنذ ذلك الحين وسواعد الثوار والأحرار تجعله لثاما يحجب وجه الثائر والمقاوم حتى لا يعرف فيؤذى، فغدا كل حامل للكوفية ثائرا يخشاه المحتل ومقاوما يبارك في كل محفل وبركانا يخفي في داخله الغضب ضد الظلم. كما أن رمزيتها التعبيرية تفضح أعداء الحق الفلسطيني وتكشف دواخل المنافقين والمؤيدين للاستعمار الصهيوني، فهي الفاضحة والكاشفة لكل صهيوني، ونعم الفاضحة هي. لقد غدت الكوفية اللغة المشتركة بين أحرار العالم، الناطقة بلسان الإنسان الفلسطيني، المضمرة لتأوهات أطفال فلسطين وصرخات نسائها، المحرقة بسوادها لكل ظالم وخائن.
لقد رافقتني الراية والكوفية منذ بداية طوفان الأقصى وأصبحتا مؤنسي في طريق ذهابي وإيابي للوقفات المناصرة للقضية الفلسطينية، أحملهما كما يحمل كل حر أبي روحه على راحته مسترخصا إياها في سبيل ما يؤمن به، كما أشعر بالسعادة والفخر عندما أراهما تلهمان بنتيّ صنوف الإبداع فتتدفق سجيتهما بسحر الجمال وهما تتفننان وتتنافسان في رسم الراية وزخرفة الكوفية بحبات الزيتون المحاطة بشبكة صيد السمك كأنهما ترسمان لوحة الأمل في غد الحرية والكرامة.