قصتي مع “طوفان الأقصى” | ذ. سعيد ضياء 

Cover Image for قصتي مع “طوفان الأقصى” | ذ. سعيد ضياء 
نشر بتاريخ

طوفان الأقصى.. دروس لا تنسى وعبر لا تحصى

منذ السابع من أكتوبر، والعالم يعيش حالة من الفوضى السياسية والاجتماعية والعاطفية. فتلك الضربة الموجعة التي سدّدتها المقاومة الفلسطينية بقطاع غزّة لخصمها الصهيوني، جعلت الموازين تنقلب رأسا على عقب.

عدت ذلك اليوم المجيد من المسجد بعد صلاة الصبح، وشغّلت التلفاز، وفتحته على قناة الجزيرة لآخذ جرعتي من تلك المشاهد المبكية التي أدمنت على تناول ألمها ومرارتها وعلقمها؛ مشهد ذلك الشيخ الذي يدفعه جندي صهيوني فيسقط أرضا ويسقي بدمائه الزكية ساحة الأقصى، ومشهد تلك المرأة العجوز التي يرمي بها الجنود في وجه المارّة، ومشهد تلك الشابة التي تريد مجنّدة يهودية أن تسلبها هاتفها النقال الذي كانت تصور به مشاهد الاعتداءات اليومية على الشيوخ والعجائز من أبناء القدس، وحينما قاومت انهالوا عليها ضربا وركلا ورفسا.

لم أصدّق ما رأيت في ذلك اليوم؛ فالبطل الخارق الذي لا يُهزم، سقط بالضربة القاضية أمام أعين مدربيه ومناصريه ومعجبيه. وحتى لو حاول الاستدراك والوقوف –من جديد- على قدميه، فهذا لن يمحوَ أبدا عار سقطته المدويّة تلك من سجلاّت التاريخ. فلن ينسى العالم تلك اللّمسة الفنّية السّاحرة التي افتتحت بها كتائب الشهيد عزّ الدين القسّام معركة طوفان الأقصى قادمة من البرّ والبحر والجوّ، لتنقضّ على عدوها وتباغته في عقر مستوطناته، فتأسر كيفما شاءت، ثم تعود أدراجها تاركة الأجهزة الاستخباراتيّة الإسرائيلية ونظيرتها الأمريكيّة صاغرة مبهورة، مبهوتة مذهولة.

طرت فرحا… وددت لو أنّي كنت هناك في الخالدين…

وتوالت بعد ذلك الأحداث… وكما لن ينسى العالم ضربة السابع من أكتوبر، لن ينسى كذلك نزول الرئيس الأمريكي إلى “تل أبيب” بعد مرور اثني عشر يوما على انطلاق الحرب مقدّما دعمه غير المشروط لسيدته المبجّلة، ومعشوقته المدلّلة، قائلا كلمته الواضحة الفاضحة: “لو لم تكن هناك إسرائيل لعملنا على إقامتها”.

تضاربت الآراء، وتعدّدت التحليلات، ووُضعت الفرضيات، وحُسبت نقاط الضعف ونقاط القوّة… ودُعي المحلّلون السياسيون والعسكريون من طرف القنوات الفضائية هنا وهناك للحديث عن موضوع الساعة، وانتشرت على صفحات الفضاء الأزرق مقالات وتدوينات ومقاطع فيديو كلّها تنقل أخبار الحرب وتنشرها وتحلّلها، وانقسم العالم بين مؤيّد ومعارض، بين متخاذل ومساند. وكلّ ما يمكنك تخيّله من لغو الكلام ستسمعه عند هذا أو ذاك… شيء واحد فقط لن تسمعه إلا عندما يتكلّم الملثّم –الذي أجبر العالم بأسره على احترامه والإصغاء لحديثه-، أو أحدُ أبناء حركته، أو بعضُ من فتح الله بصائرهم من أهل العلم والتقى؛ وهو الله… فعل الله… إرادة الله… معيّة الله… مشيئة الله… عون الله… تأييد الله.

لا أستغرب حين يحلّل الملحدون والكافرون بمادية محضة بعيدا عن ذكر الله. لكن ما يؤلم حقّا هو حينما يتحدث المسلمون ويحلّلون بنفس منطق الجاحد بالله، الغافل عن ذكره –سبحانه-، المستبعد نصرته للذين آمنوا وجاهدوا.

نعم؛ قد تملك العصابة الصهيونية أسلحة جدّ متطوّرة. قد تملك العتاد والعدّة ليس فقط لتدمير غزّة بل لتدمير العالم بأكمله. قد تكون مساندة من طرف أقوى دول العالم التي لن تبخل عليها بكلّ أنواع الدعم… لكن ما لا يعرفه العدو، ولا خدّامه وعبيده، ولا الغافلون من بني جلدتنا، وهو أن أحفاد الشيخ أحمد ياسين قد استطاعوا الوصول إلى السّر الأكبر، وتمكّنوا من الحصول على دعم القوّة المطلقة، القوة الأزلية، القوة التي لا تقهر. إِنَّ اَ۬للَّهَ يُدَٰفِعُ عَنِ اِ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٖ كَفُورٍۖ (36).

أبناء الشيخ ياسين قاموا – وهم يدركون أنّ للزحف محجة لاحبة وهدفا معلنا، ومرونة ضرورية، وثمنا معلوما- فقال بعضهم لبعض: “بأيدينا نسأل الله أن ينزل قدره. فهات يدك –يا أُخيَّ- نتحاب ونتعاهد على نصر الله. وإنّه لجهاد؛ نصر أو استشهاد”.

فليسكت المنافقون، وليخرس المرجفون، وليخسأ المطبّعون…

أبناء الشيخ عزّ الدين القسّام تعلّموا من شيوخهم أن أعتى سلاح في العالم –بعد الأخذ بالأسباب وإعداد القوّة- هو سلاح التقوى، وأن أعظم ترسانة يواجهون بها العدو، هي الإيمان والتوكّل على خالق الأرض والسماوات العلى. فتعلّموا كيف يطلبون العون من الأقوى، كيف يعرضون عليه -في خلوات الخنادق- حاجاتهم ويبثّون إليه الشكوى. ركبوا سفينة القرآن فحفظوه عن ظهر قلب بغاية التنفيذ، وكانوا مدارس قرآنية متنقّلة عبر الأجيال. اتبعوا سنّة حبيبهم المصطفى ﷺ واقتدوا به وبأصحابه فكانوا أهلا لمعيّة الله، أهلا لتأييد الله، أهلا لنصر الله.

فالتربية بداية السير، فمتى كانت متينة على هدى من الله كان الجهاد ممكنا، وإن حدث خلل في التربية فلا يصح أن ننتظر نصرا من الله. فحينما تغلب الحركية التربية، ينقلب العمل الإسلامي في النية عملا حزبيا سياسيا في الفعل. فيصبح التدافع مع العدو المدجج بأسلحة الولايات المتّحدة انتحارا.

إنّنا متى ما اعتمدنا على قوة سواعدنا، وأعجبتنا كثرة أعدادنا، وحسبنا حساب المعارك -بعيدا عن الله- وتركنا التوكّل عليه سبحانه أوكلَنا إلى أنفسنا؛ فجاءتنا الهزائم تترى.

رحم الله الإمام المرشد عبد السلام ياسين فقد أشار إلى هذا المعنى إشارة صريحة فقال: “لا تكون قوة الولايات المتحدة، وتسلّح اليهود، وتمالؤ الملَّتين علينا، ورصد المخابرات العالمية لنا، وتربص الأعداء والخصوم الداخليين والخارجيين بنا حاجبا لنا عن مدد الله المعهود، وعقده سبحانه وتعالى المعقود” 1.

إنّ من يحسب معركة طوفان الأقصى بميزان أهل الدنيا –بعيدا عن قوله تعالى: إِذْ يُوحِے رَبُّكَ إِلَي اَ۬لْمَلَٰٓئِكَةِ أَنِّے مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ اُ۬لذِينَ ءَامَنُواْۖ سَأُلْقِے فِے قُلُوبِ اِ۬لذِينَ كَفَرُواْ اُ۬لرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ اَ۬لَاعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٖۖ[الأنفال‏- الآية: 12] كان لزاما عليه أن يرى رجال المقاومة صرعى، قتلى، مهزومين، صاغرين… منذ اليوم الأول، ففي سلّم الترتيب العالمي للقوّة حسب تصنيف مؤشر “غلوبال فاير باور” لسنة 2023 يأتي العدو الصهيوني في المرتبة 18 في حين لا وجود لحماس ولا لغزّة على سلّم الترتيب ذاك. لكن ما نراه على أرض الواقع يثبت أن المقاومة أقوى من عدوها بكثير، ولجوؤه لقصف المدنيّين خير دليل على شعوره بالهزيمة وإحساسه بخيبة أمل لم يتجرّع مثلها من قبل. ذاك أن المعركة تُدار بشكل آخر، بعيدا عن الحسابات المادية والعسكرية.

واسمع هاته الكلمات التي تقرع آذان القلوب صدقا وحقا: “علينا أن ننظر عاليا وبعيدا لنخطط حركة الإسلام، ونقودها في ساحات الجهاد، يجب أن نصحح المنطلق لئلا نتشتت على سطح الأحداث. آن لأمتنا أن تطمح طموحا عالميا رغم قصورنا الحاضر وانهزامنا الحضاري المؤقت. وليس لنا ما يميزنا عن شعوب الأرض عندما تقارن المقومات والوسائل إلا أننا حملة رسالة الله إلى العالم. قرآننا زادنا وسلاحنا. والله عز وجل ولينــا، ومحمد صلى الله عليه وسلم نموذجنا وإمامنا” 2.

فمتى كان المؤمنون مع الله، كان الله معهم، وكان وليّهم وناصرهم.

متى كانوا لله لا لأنفسهم، لله لا لعصبيتهم أو قوميتهم؛ استحقوا النصر من الله، واستحقوا معيّة الله.

متى كان هدف المجاهدين هو تحرير الإنسان من ظلم الطبقية، وتحرير أرض المسلمين من العدو الصهيوني الجاثم على أعز بقعة من بلادنا، وإخراج الإنسان من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد، كان لهم النصر والتأييد.

يا أعمى؛ ألا ترى! إنها 272 يوما من العدوان المستمر، 272 يوما والمقاومة ثابتة قوية تذيق العدو مرارة الهزيمة، وتستبسل في الميدان.

يا أعمى؛ أما تبصر! إنها ضربات من نقطة الصفر…

مدرّعات مجهّزة بأحدث ما وصلت إليه تكنولوجيا البشر في مجال استشعار الخطر تضرب من مسافة الصفر…

يا غارقا في مستنقع الفكر المادي المحض؛ أنّى لك أن تسمع عن الله، وتفهم عن الله، وتعقل كلام الله: قَٰتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اُ۬للَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٖ مُّومِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْۖ وَيَتُوبُ اُ۬للَّهُ عَلَيٰ مَنْ يَّشَآءُۖ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌۖ (15) [التوبة].

يعذّبهم، يخزهم، ينصركم… هو الفاعل سبحانه لا أنتم. فأين وكيف ومتى ضيّع المسلمون بوصلتهم؟

كيف نسوا قصّة سيدنا موسى مع فرعون؟ كيف زاغ فهمهم، ومال فكرهم، وانعدم تفكّرهم؟

أين ضاع منهم قوله تعالى: وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَي اَ۬لذِينَ اَ۟سْتُضْعِفُواْ فِے اِ۬لَارْضِ وَنَجْعَلَهُمُۥٓ أَئِمَّةٗ وَنَجْعَلَهُمُ اُ۬لْوَٰرِثِينَ (4) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِے اِ۬لَارْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَٰنَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَۖ (5) [القصص].

أين فقدوا ثقتهم بالله عزّ وجلّ؟ أين ضيّعوا توكلهم عليه سبحانه؟

متى انتصروا بفضل عدّتهم وعتادهم وكثرة أعدادهم بعيدا عن تأييد الله ونصرته؟

أين منهم قوله تعالى: إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمُۥٓ أَنِّے مُمِدُّكُم بِأَلْفٖ مِّنَ اَ۬لْمَلَٰٓئِكَةِ مُرْدَفِينَۖ (9) وَمَا جَعَلَهُ اُ۬للَّهُ إِلَّا بُشْر۪يٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِۦ قُلُوبُكُمْۖ وَمَا اَ۬لنَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اِ۬للَّهِۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌۖ (10) [الأنفال‏].

وأين منهم قوله تعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اَ۬للَّهَ قَتَلَهُمْۖ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اَ۬للَّهَ رَم۪يٰۖ وَلِيُبْلِيَ اَ۬لْمُومِنِينَ مِنْهُ بَلَآءً حَسَناًۖ اِنَّ اَ۬للَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞۖ (17) ذَٰلِكُمْ وَأَنَّ اَ۬للَّهَ مُوَهِّنٞ كَيْدَ اَ۬لْكٰ۪فِرِينَۖ (18) إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ اُ۬لْفَتْحُۖ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٞ لَّكُمْۖ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْۖ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْـٔاٗ وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اَ۬للَّهَ مَعَ اَ۬لْمُومِنِينَۖ (19) [الأنفال].

فـ”العامل الحاسم هو استعدادنا، أستغفر الله العظيم؛ الفاعل القادر هو سبحانه ينصر من يشاء. ويتنزل نصره وعونه على جند الله متى تعبَّأوا وأعدوا القوة، وأخلصوا النية، وعبدوه جل شأنه لا يشركون به شيئا. وحَسَبوا مع ذلك للعقبة المتمثلة في القوى المعادية خارجية وداخلية حسابها في سلم ناموس الكون، لا يتعاظمون هول ما يرون من قوة العدو عَدداً وعُدداً، ولا يستهينون بشيء من أسبابه مما في وسعهم أن يناهضوه بأسباب مثلها. ثم يأتي الفرج من عند الله، والنصر من عند الله، والفتح من عند الله. لا إله إلا الله محمد رسول الله” 3.

وصلى الله وسلّم على سيدنا محمد وآله وصحبه وحزبه.


[1] الأستاذ عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، دار إقدام للطباعة والنشر الطبعة الخامسة: 2022/1443، ص: 14.
[2] الأستاذ عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، دار إقدام للطباعة والنشر، الطبعة الخامسة: 2022/1443، ص: 22-23.
[3] الأستاذ عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي ص: 14- دار إقدام للطباعة والنشر، الطبعة الخامسة: 2022/1443.