قصتي مع “طوفان الأقصى”.. “رجال الأنفاق” أماطوا اللثام عن مؤامرة الاستكبار العالمي

Cover Image for قصتي مع “طوفان الأقصى”.. “رجال الأنفاق” أماطوا اللثام عن مؤامرة الاستكبار العالمي
نشر بتاريخ

كفى بغزة واعظا

كنت بين جموع المسلمين ميممين وجوههم قبل مصلى البلدة، أردد معهم أذكار التكبير والتهليل فرحا بالعيد السعيد، لم أنتبه لنظرات الناس المتكررة وهم يحملقون في لباسي إلا بعد أن انكفأنا راجعين إلى البيوت. تابعت المسير وكلما رفعت بصري توالت علي النظرات، بين متعجب ومستنكر للكوفية الفلسطينية وهي تزين أكتافي. كأن العيد حكر للجديد من اللباس فرحا بيوم الجائزة، أو لا يحق لرمز الحبيبة فلسطين أن يعبق بأريج نفحات العيد؟ يعبر المسافات حاملا النصرة والانتصار للحق، تتطاير أهدابها بنسيم الصباح الباكر معلنا أنه لا فرق بين إسلام الفرحة بالعيد وإسلام الجهاد لنصرة الأقصى المجيد. أي نعم فلسطين برموزها وقطاعها الصامد يسطرون مرحلة التغيير في كل شيء.

1- البوصلة من الإقبار إلى الإشهار

استفاقت الأمة والعالم يوم السابع من أكتوبر الماضي على زلزلة قطاع غزة لجيش الاحتلال. استيقاظة نؤوم الضحى عن العجين، صحنا مكبرين وكل أحرار العالم: فعلها الأبطال. وارتعدت صيحات مخالفة مرتعبة كرعب الصهاينة يوم سبتهم: “على نفسها جنت براقش” متوعدة ببطش اليهود الوشيك بالمقاومة الفتية. صمد رجال الأنفاق وانتقمت عجرفة الاستكبار العالمي من إنسان غزة انتقام الوحش الجريح المنكسر.

أحدثت أشهر الإبادة التي شنتها آليات الاستكبار الصهيوني بإيعاز من “الماما” أمريكا وأذرعها الغربية تغييرا في السردية الصهيونية المحرفة للحقيقة طوال قرن من الزمن حول الوجود الصهيوني في الأرض المقدسة.  وفجأة لفظت مخيلة نساء ورجال وأطفال الأمة رواية هذا المحتل الهجين، بعد أن كشفت مخازي الإجرام الصهيوني عن حقيقة سرديته الكاذبة، وجرت رياح عالمية القضية بما لا تشتهيه سفن المشروع الصهيوني دعما وانتصارا لفلسطين إلى العالم الغربي.

كانت توبة من نوع آخر اعترت شعوب الأمة، توبة الفكر ورجعته إلى صوابه. فما فتئ طوفان الأقصى بمواكب الشهداء ومسيرات النازحين وبطولات الرجال يرجع كل يوم البوصلة الأم “فلسطين” إلى ذاكرة الأمة بعدما أقبرها الاستبداد المطبع والاستكبار العالمي.

2- القرآن والطوفان

تعجبت من تدبير الله عز وجل مسبب الأسباب؛ كيف تمسي محنة العبد منحة والابتلاء نعمة. ففي باطن امتحان غزة منح عظمى للأمة للعودة لخالقها، ولمسار الحق، وللغاية الاستخلافية؛ درءا للظلم وإرساء لصرح الإصلاح وإحقاقا للحق. فهناك فرصة أخرى لنسف مشروع الجاهلية، والضرب بقوة الجهاد على أيدي الإفساد الصهيوني الذي يتغلغل كالسم الزعاف في كل شعوب أمة الإسلام. فسطوة اغتصاب الأرض ليست أشد فداحة من احتلال الفكر والفطرة، تلك لعمري معاول استئصال للإيمان بالحق والدين.

فجأة بدأ المسلمون يناقشون أثر الغيب وحقائق ما فعله الإيمان والصبر والاحتساب في عمق البلاء في أهل غزة الأشاوس. يضربون بهم الأمثال في اصطحابهم الدائم للقرآن تلاوة وحفظا وتمثلا في الواقع لمعانيه الحية. لا يمنعهم الدمار الشامل للقطاع أن يحتضنوا كتاب الله عز وجل. وسط دخان الإبادة اليومية وفوق الأنقاض ترى الأجسام الغزاوية النحيلة من فرط التجويع والمرض وشح المؤونة وهي تحتضن القرآن، وتسرد سوره جملة واحدة غيبا في حلق الذكر جنب الخيام وأماكن النزوح.

رافقت الآيات البينات المفعمة بروح النفير في سبيل الله خطابات قادة المقاومة، فلا ريب أن تكون محط تحليل العالم الغربي والعربي وخاصة بوابات الإعلام. هم يرتبونها في خانة السياسات والاستراتيجيات الحربية، وهي في الحقيقة سلاح وغلبة للمستضعفين المجاهدين. كل آية تروي الصمود، وتشهد بالحق، وتنفذ بصدق مراد الله في أرضه المباركة المقدسة.

تمت الولادة بين فرث ودم يوم السابع من أكتوبر فكان الدخول لرجال الأنفاق واستمر. ما خالجه يأس ولا زعزعته مآسي الإبادة أو فتت في عضده قيد أنملة. يقول الله تعالى: قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ [سورة المائدة، 23].  الدخول أمر من الله لموسى عليه السلام ومن معه باقتحام أبواب الأرض المقدسة لجهاد الجبابرة، وهو وصال لنفس الأمر تنفيذا لمنهاج رسول الأمة المحمدية صلوات ربي عليه في إحقاق الحق وقتال الباطل المعربد في صفوف الأمة. كسر جدار الخوف من بعد أن ملأ الله عز وجل قلوب الطائفة المؤمنة وجلا منه سبحانه وخشية. الرجلان في زمن موسى عليه السلام قلة مؤمنة وسط كثرة تخشى طاغوت البشر أنعم الله عليهما باليقين في تدبير أقداره وسننه وتأييده جنده بالغيب فإذا هم غالبون.

اقتحمت المقاومة غلاف غزة المحاصرة وكسرت دولة تتبجح بعظمتها بين الأمم المستكبرة. مناسبة تعلي بها غزة همم الأمة الإسلامية في مجابهة الخوف من ظلم الاستبداد وتطبيعه مع العدو، يقول الله تعالى في هذا الصدد مستنكرا قعود الأمة عن واجب الجهاد وإحجامها عن نفض غبار الوهن: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ [التوبة، 38]. إن الجهاد اقتحام عقبة النفس الخائفة من ضياع راحتها ودعتها أولا لتتلقى بعد ذلك داعي تعظيم القلب بخشيته والشوق لبذل النفس والبدن فداء للحق والدار الآخرة. لذلك كانت آية الدخول من الباب أول آية توشحت بها عملية طوفان الأقصى المجيدة. كانت أرضها التي تقاتل فوق بساطها وسماءها التي تستمطر منها حسن التوكل على الله بعد إعداد عدة الأسباب.

كشف الدخول المفاجئ عن خبايا هشاشة العدو الصهيوني المتغطرس. تلك الفجاءة في الطوفان زر إشعار وإنذار للقادم من الأيام في هذه الحرب تحت شعار رباني “فإنكم غالبون”. يظل الزر قيد الاشتغال طوال أشهر العدوان على غزة، فما كان القصف والإبادة إلا ذعرا وتحيرا يعتري الخائف من هجمة أشرس من سابقتها.

غيرت غزة روح تلاوة القرآن لدى المسلمين؛ فكانت آيات إفساد اليهود في سورة البقرة تفضح قسوة قلب المجرم الصهيوني الذي يفتك بالرضع والخدج من غير رحمة إنسانية، وآيات النفير وشموخ الإيمان في سورة الأنفال حافزا لنهوض كل مؤمن قائم بالقسط نصرة وجهادا، ويتلى في سورة آل عمران عن انتصار الطائفة القليلة بقوة الإيمان لا بعدة العتاد المادي، وبحسن طاعتهم لربهم ومنهاج نبيهم كما في غزوة بدر الكبرى.

3- الإيمان والرجال

صار إيمان رجال الأنفاق بجهاد التحرير ومعهم الحاضنة غزة المحاصرة ملهما لهمم شعوب الأمة القابعة تحت نير الاستبداد وسطوة التطبيع. وأضحى استبسال المقاومة في ساح الوغى هو الإعلام الكاشف لحقيقة ما يجري في غزة الأبية. يسمع ويرى المسلم في بقاع الأمة والعالم صمود أهل غزة، وكيف قلب الإيمان موازين حرب غير متكافئة استراتيجيا وعسكريا فرجحت الكفة لصالح رجال الأنفاق البواسل.

يتعلم المسلمون اليوم نساء ورجالا كيف ينتصر الإيمان والرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه أحدث الترسانات الحربية والاستراتيجيات. اشتروا الآخرة بالفانية لا يضرهم خذلان العالم الإسلامي لهم. نبكي بحرقة موتاهم ونتحسر على فقدهم متاع الدنيا وهم في البذل جبال شوامخ، أتعبوا من خلفهم من الأجيال القادمة.

هم الرجال وكفى. وصف القرآن لهؤلاء الفئة من الناس في بعض سوره ترجح فيها كفة الإيمان وصدق الطلب. يحكي القرآن عن الرجلين يوشع بن نون وكالب بن يوقنا وهم من النقباء الإثنى عشر الذين بعثهم موسى عليه السلام لكشف أحوال الجبابرة بفلسطين، يقول الله سبحانه وتعالى: “قال رجلان” فبهما كان الفتح للأرض المباركة بعد امتثالهما أمر ربهما وطاعة لنبيهما. الرجال إذن اصطفاء بين الكثرة الغثاء الكارهة للنفير من الله سبحانه للصفوة القليلة من الصادقين في ابتغاء الآخرة شوقا وجهادا. يقومون حين يقعد الناس، ويتقدمون وينفرون في سبيل الله حين ينكص المسلمون على الأعقاب خوفا وركونا للدنيا. يعدون أسباب العدة ويتوكلون على ربهم طالبين المدد والسند في كل حين، والله يبارك في قيامهم وعتادهم.

رجال الأنفاق حملة مشعل النبوة المبشرة بظهور الطائفة المؤمنة من هذه الأمة على العلو الصهيوني والاستكبار العالمي القاهرة لكل طاغوت في الأرض. هم أهل النفير البدري المتعالين عن العير الدنيوي. أماطوا اللثام عن مؤامرة الاستكبار العالمي ضد الإنسانية وضد الدين والقيم والأخلاق. وكشفوا زيف الديموقراطيات المترنحة تحت زيف الحقوق والحريات والعدالة.

الإيمان في الوحي والنبوة قطبي هذا الدين السمح يجلي للعيان زيف أو صدق العمل والقيم، فمتى كان هنالك إيمان لمن لا أمانة له ولا أمان؟ هو الجالب لمعاني اليقين في موعود الله بالنصر لجده المجاهدين ما أيقنوا أن عرش الطاغوت إلى زوال وأن الأرض يرثها عباد الله الصالحون.

غزة فتح للأمة لتعود لمولاها، انظروا كيف تلاقت نفحات سهام الليل والقنوت والبكاء حين غرقت غزة في المجازر اليومية، جابت أكف التبتل والضراعة أصقاع الأمة. إن كانت الصلاة قبلة وحدت المسلمين، والحج وغيره من الشعائر، فغزة نفضت الغبار عن المحاريب الفارغة؛ وحدت الألسن المسلمة والتقت عند رب السماء والأرض.

غزة أنتجت الإنسان الذي لا يقهر ليعرف العالم غربه وشرقه عظمة هذا الدين الخالد؛ الإسلام، وأن قوة هذه الأمة في تمسكها به قرآنا ونبوة. ففي هذا الدين سلاح  يقهر كل جبار عنيد هو صدق الإيمان وإرادة وجه الله عز وجل، فما وهن المسلمون وتكالب عليهم الاستكبار الغربي وأفسد فيها العلو الصهيوني إلا بعد أن أعرضوا عن منهاج نبيهم في تنفيذ شريعة القرآن.