قصتي مع “طوفان الأقصى”.. وعد الآخرة والدخول الثاني إلى المسجد الأقصى

Cover Image for قصتي مع “طوفان الأقصى”.. وعد الآخرة والدخول الثاني إلى المسجد الأقصى
نشر بتاريخ

“وعد الآخرة” فتح في كنف “الخلافة الثانية”

مع “طوفان الأقصى” المبارك ببركة دفاعه عن المسجد الأقصى الذي باركه الله وبارك ما حوله، ومع تجدد الحرب الصهيونية الشعواء على قطاع غزة، والصحيح أنها حرب عالمية تقمصت فيها الصهيونية الخائرة البائرة جسد الأنظمة الغربية الاستكبارية، وركبت فيه ظهر الأنظمة العربية التابعة؛ مع هذا التكالب الغربي والعربي، تجدد عندي نقاش داخلي لا يهدأ عن مستقبل القضية الفلسطينية، وعن “وعد الآخرة” كما ذكره الحق سبحانه وتعالى في سورة الإسراء. آليت على نفسي ألا أبرح ثغر التلمذة والتعلم حتى أبلغ الذي يطمئن إليه قلبي ويستنير به عقلي وتستقيم به وجهتي، ثم اجتهدت أن أعمل بوصية الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه للذين لم يستضيئوا بنورِ العلمِ مثلي أن يلجؤوا إلى ركن وثيق.

يقول الله عز وجل في أوائل سورة الإسراء: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِن دُونِي وَكِيلًا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا 1.

1

اتفق جمهور المفسرين المتقدمين كالطبري وابن كثير والقرطبي والبغوي وغيرهم وعدد من المفسرين المعاصرين كسيد قطب ومحمد سيد طنطاوي، على أن وقوع الإفسادين الأول والثاني كان قبل البعثة المحمدية، واتفقوا على أن العباد الذين بعثهم الله على بني إسرائيل ليسوموهم سوء العذاب هم كفار، وإن اختلفوا في تعيينهم. فمنهم من قال هو جَالوت الجزَري وجنوده، ومنهم من قال هو ملك الموصل سِنحَاريب وجنوده، وآخرون قالوا هو بُختنصَّر ملك بابل. وهناك من لم يتكلف عناء تعيين هؤلاء العباد لأنه كما يقول سيد قطب: “لَا يَنُصُّ القُرْآنُ عَلَى جِنْسِيَّةِ هَؤُلَاءِ الذِينَ سَلَّطَهُمْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، لِأَنَّ النَّصَّ عَلَيْهَا لَا يَزِيدُ فِي العِبْرَةِ شَيْئًا” 2.

وذهب عدد آخر معتبر من أهل العصر مثل عبد المعز عبد الستار ومحمد متولي الشعراوي وادريس الكتاني وعبد الكريم يونس الخطيب وفضل حسن عباس وحاكم المطيري وغيرهم إلى أن الإفسادين كانا في حضن الإسلام، واتفقوا على أن العباد الذين بعثهم الله هم مؤمنون صالحون، وإن اختلفوا في تعيينهم. على أن غالبيتهم قالوا بأن الله بعث عليهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه في إفسادهم الأول.

2

من بين ثنايا هذا التنوع في التفسير والتباين في التعيين، برز رجل فذ من أكابر هذه الأمة، وركن وثيق من أركان الفقه والعلم والفهم، وبسط في كتاب له أسماه “سنة الله” دررا ثمينة في فهم آيات هذه السورة. تفسير الإمام المجدد الأستاذ عبد السلام ياسين رحمة الله عليه لآيات هذه السورة تفسير يستحق أن يُنتبَه إليه، بل وأن تشد إليه الرحال، لأنه تفسير استضاء بنور العلم بالله ومعرفة الله. يقول رحمة الله عليه: “لَنْ يَكُونَ لَنَا النَّفَسُ الطَّوِيلُ، وَلَا الثِّقَةُ بِنَصْرِ اللهِ، وَلَا القُدْرَةُ عَلَى إِعْدَادِ العُدَّةِ فِي الأَمَدِ البَعِيدِ، إِنْ لَمْ نَجْعَلْ جَوْهَرَ القَضِيَّةِ الفِلِسْطِينِيَّةِ فِي وَعْيِنَا وَحَرَكَتِنَا مُطَابِقًا لِتَعْلِيمِ القُرْآنِ فِي المَسْأَلَة، مُسْتَنِيرًا بِهَدْيِه” 3.

مما لا حرج فيه أن تختلف نظرة المفسرين الأقدمين عن نظرائهم من المعاصرين؛ فهم رحمهم الله كانوا يصدرون عن هم فردي في ظل بيضة الإسلام المحمية وسلطانه الممتد شرقا وغربا، بينما يشهد نظراؤهم في هذا العصر إسلاما ممزقا، وأمة مشتتة، وسلطانا في مهب الريح، ورقابا يتحكم فيها الأعداء. كتب الله على المعاصرين أمرا قدريا بأن يكونوا شهداء على علو بني إسرائيل الكبير في فلسطين، وخصهم سبحانه وتعالى بقراءة هذه الآيات القرآنية على ضوء الآيات الأنفسية والآفاقية. يقول الإمام المجدد رحمة الله عليه: “نُقَابِلُ نَحْنُ هَذِهِ الصَّفْحَةَ مِنْ آيَاتِ اللهِ فِي القُرْآنِ بِمِرْآةِ آيَاتِ اللهِ فِي الأَكْوَان” 4.

يرى مؤسس مدرسة المنهاج النبوي رحمة الله عليه رأي الذين قالوا بأن الإفسادين قد وقعا بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤكد على أن أولي البأس الشديد هم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه؛ “عِبَادُ الحَضْرَةِ المُصْطَفَوْنَ الأَخْيَارُ كَانُوا هُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحَابَتُهُ. أَفْسَدَ اليَهُودُ فِي الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ بِمَا نَقَضُوا مِنْ عُهُودٍ وبِمَا نَكَثُوا وَغَدَرُوا. كَانَ جُنْدُ اللهِ بِقِيَادَةِ رَسُولِ اللهِ عِبَادًا للهِ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ جَاسُوا خِلَالَ دِيَارِ خَيْبَرَ الجَوْسَ الـمُنْكِي” 5.

لقد تفرد رحمه الله عن أبناء عصره بأنه أسس تأسيسا محكما للسياق العام الذي ستتحرر فيه الأرض المقدسة، وضبط ضبطا واضحا لا لبس فيه الإطار العام الذي سيحتضن الدخول المظفر للمسجد الأقصى، يقول في ذلك: “وَعْدُ الآخِرَةِ مُوَاجَهَةٌ بَيْنَ الإِسْلَامِ كُلِّهِ تُمَثِّلُهُ الأُمَّةُ المُسْتَخْلَفَةُ بَعْدَ خَلَاصِهَا مِنَ الفِتْنَةِ وَتَحَرُّرِهَا مِنْ كُلِّ عُبُودِيَّةٍ لِغَيْرِ اللهِ وَبَيْنَ الجَاهِلِيَّةِ كُلِّهَا يُمَثِّلُهَا السُّمُّ الجَاهِلِيُّ اليَهُودِيُّ السَّارِي فِي الأَرْضِ السَّاكِنِ فِيهَا كُلِّهَا” 6. ثم إنه وضع كل هذه الأهداف العزيزة في مكانها المناسب ضمن مشروع تحرير الأمة، بعد أن أعطاها حجمها الحقيقي دون زيادة أو نقصان. يقول رحمه الله: “إِنَّ وَعْدَ الآخِرَةِ حَدَثٌ ضَخْمٌ يَنْتَظِرُهُ المُؤْمِنُون. لَيْسَ مَوْقِعَةً جُزْئِيَّةً وَلَا مَعْرَكَةً جَانِبِيَّة… قَضِيَّةُ الإِسْلَامِ وَاحِدَة، وَاجِهَتُهَا الصِّدَامُ المَحْتُومُ مَعَ الجَاهِلِيَّة. وَمَا فِلِسْطِين وَأَفْغَانِسْتَان إِلَّا مُقَدِّمَتَانِ لِوَعْدِ الآخِرَة” 7.

من إزاء القرآن والسنة ينظر الإمام المجدد رحمة الله عليه إلى وعد الآخرة والدخول الثاني إلى المسجد الأقصى، ومن أعالي حديث الخلافة على منهاج النبوة يبسط نظرته عن مستقبل فلسطين وعن المنهاج لتحرير أولى القبلتين وثالث الحرمين. عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ﴿تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا اللهُ إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا. ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا. ثُمَّ تَكُونَ مُلْكًا عَاضًّا، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا. ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيًّا، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا. ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ. ثُمَّ سَكَتَ﴾ 8.

أفسد بنو إسرائيل إفسادهم الأول عندما كذبوا بنبوة الرسول صلى الله علسه وسلم وحاربوا دعوته وحاولوا قتله ووأد دعوته، وهذا بمقياس الدعوة المحمدية الوليدة وقلة النصير يومئذ فتنة في الأرض وفساد كبير. وفي كنف النبوة والخلافة الأولى أنزل الله تعالى وعد الأولى بأيدي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم أول الأمة، وعلى أيديهم كتب الله الدخول الأول إلى المسجد الأقصى وتحرير بيت المقدس. وبانتقاض عرى الإسلام عروة عروة وانكسار الأمة التاريخي رفع الله الخلافة والتمكين، وقدر على عباده الملك العاض والجبري تقديرا، ورد الكرة لبني إسرائيل على المسلمين بعد أن أمدهم بأموال وبنين وجعلهم أكثر نفيرا. وفي عهد إفسادهم الثاني هذا، لا تحرير يرجى ولا تمكين يرتقب إلا بسلوك على المنهاج النبوي؛ في كنف الخلافة الثانية إن شاء الله تعالى، سيتنزل وعد الآخرة على إخوان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم آخر الأمة الذين يُصلِحهم ما أصلَح أولَها، وعلى أيديهم سيتحقق الدخول الثاني إلى المسجد الأقصى ويقطعوا دابر العلو ويسكتوا صوت الفساد.

3

لما استقر بخلدي هذا النظم الفريد والنسج المتين للإمام المجدد رحمة الله عليه، جالت في خاطري إشارات داعمة لهذه الوجهة، ورشح عندي من وحي المقابلة بين سورتي الإسراء والفتح ما يلي:

أ- بين الإسراء والدخول. أسرى الحق سبحانه وتعالى بعبده صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى فقال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا، ومن غير المستبعد أن تكون من الآيات التي رآها أنه سيدخل المسجدين على الأرض فتحا وتمكينا، بعد أن أسري به إلى السماء بينهما تخصيصا وتثبيتا.

ب- بين الفتح القريب والفتح الأخير. بعث الحق سبحانه وتعالى عباده ليدخلوا المسجد الحرام في فتح قريب فقال: لَقَدْ صَدَقَ اَ۬للَّهُ رَسُولَهُ اُ۬لرُّءْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ اَ۬لْمَسْجِدَ اَ۬لْحَرَامَ إِن شَاءَ اَ۬للَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحاٗ قَرِيباً، وبعثهم ليدخلوا المسجد الأقصى في فتح أخير فقال: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ.

ج- بين العباد والقوم. سمَّى الحق سبحانه وتعالى الكفار في سورة الفتح قوما فقال: قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ اَ۬لَاعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَيٰ قَوْمٍ ا۟وْلِے بَأْسٖ شَدِيدٖ تُقَٰتِلُونَهُمُ أَوْ يُسْلِمُونَ، وسمى المؤمنين في سورة الإسراء عبادا فقال: بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ.

د- بين القرآن والتوراة. نعت الحق سبحانه وتعالى في سورة الفتح نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وصحبه بأنهم عابدون أشداء، وأثبت لهم هذا الوصف في التوراة فقال: مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ اُ۬للَّهِ وَالذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى اَ۬لْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَر۪يٰهُمْ رُكَّعاٗ سُجَّداٗ يَبْتَغُونَ فَضْلاٗ مِّنَ اَ۬للَّهِ وَرِضْوَٰناٗۖ سِيم۪اهُمْ فِے وُجُوهِهِم مِّنَ اَثَرِ اِ۬لسُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِے اِ۬لتَّوْر۪يٰةِ.


[1] سورة الإسراء، من الآية 1 إلى الآية 7.
[2] سيد قطب، كتاب “في ظلال القرآن”.
[3] عبد السلام ياسين، كتاب “سنة الله”، ط 2005/2، مطبعة الخليج العربي، تطوان، ص 65.
[4] نفسه، ص 69.
[5] نفسه، ص 70.
[6] نفسه، ص 175.
[7] نفسه، ص 155.
[8] رواه الإمام أحمد بسند صحيح.