تواصل معي طالبا “تفاعلا مع التطورات المفرحة القادمة من فلسطين”، أجبته برسالة باردة جاهلا لما وقع تلك الصبيحة: “مرحبا، أنا عند ميكانيكي، فعربتي تئن”!.
كانت صبيحة عادية… وكان أقصى ما كنت أرجوه من الأخبار المفرحة تلك الصبيحة، التي لم أفتح فيها لا تلفازا ولا وسيلة تواصل إخبار أخرى تخرجني من التخلف التاريخي الذي وقعت فيه، أو قل تلحقني بركب التاريخ الذي اهتز هزة كبرى يوم السبت السابع من أكتوبر من عام 2023، قلت إن أسمى خبر مفرح انتظرته تلك الصبيحة أن ينتهي الميكانيكي من إصلاح تلك السيارة التي تحملني وتحمل عني، خاصة أني “أعمل زوالا حتى الرابعة والنصف” كما أردفت في رسالتي قاطعا كل أمل لصديقي الذي انتظر تفاعلا سريعا مني مع طلبه، ولا شك أنه لم يستوعب مني هذا الرد البارد أو هكذا خُيل إليَّ لما أجابني في حدود اهتماماتي “السفلى” التي تأخرت في اللحاق بالاهتمامات العليا التي رفعت أمة في ساعات من وهدة الإحساس بالذل والهوان والمهانة والاستهانة وكل مرادفات الوهن الذي أوجزه معلم البشرية في قوله الجامع: “حب الدنيا وكراهية الموت”.
قال صاحبي في تعقيبه الذي لم أحس به إلا في مساء ذلك اليوم: “قواك الله ويسر أمرك وأصلح عربيتك” عندما تيقن أني خارج التاريخ، بل خارج المستقبل… وتابع محترما حدود اهتماماتي الضيقة بسبب اتساع جهلي بما جرى ويجري: “حين تنتهي وتستريح ويتاح لك الوقت، نتواصل بإذن الله”.
تركت الهاتف وانغمست مع الميكانيكي الذي لم يكن يملك بدوره هاتفا ذكيا ولا تغطية، بل ظل وفيا لهاتف “نوكيا بيل” الكلاسيكية التي طالما تحدث عنها وعن مزاياها التي أضحت مصباحه في الفحص الداخلي للسيارة.. فيعدد إيجابياتها ويطنب ويبالغ في كل مرة خاصة عندما تطول مدة الصيانة، وننتهي من نقاش كل المواضيع الجدية والهزلية..
انتهى الإصلاح متأخرا ووقت العمل يزاحم، وعدت سريعا للبيت ولم تتح لي الفرصة لفتح التلفاز أو ربط الهاتف بشبكة “الويفي” لأعرف ماذا وقع في الأرض المقدسة التي ألفنا تدنيس الأنجاس لها، وصارت أخبارها مثل كل تلك الأخبار العادية التي نسمعها يوميا في حياتنا… غثائية وانهزام!
أكلت لقيمات وخرجت وخرج معي الهاتف من تغطية “الويفي” ودخل مجال تغطية “نجمة 6” التي أضحت خيارا ملائما نعرف به الحد الأدنى من الأخبار عبر الواتساب والفيسبوك. ولكن رغم ذلك لم أطلع على أي خبر ذي أهمية وأنا أتصفح الواتساب تلك الظهيرة..
مرت الساعتان سريعا وعدت للبيت، واستلقيت أخيرا لألتقط أنفاسي بعد يوم طويل من المشاغل.. وأخيرا وقعت في يدي أداة التحكم فأشعلت التلفاز، وطلب صديقي طواه النسيان.. وبعد محاولات معها استجابت أخيرا تحت تأثير الضرب من كل الجهات.. ولحد الساعة لا أستوعب ما علاقة ذلك الضرب بعملها خاصة أني متأكد أن المشكل في بطارياتها التي لم أغيرها منذ شهور… لكن كذلك وجدنا آبائنا يفعلون ففعلنا، وربما رضخت “التليكوموند” لمنطقنا الغريب لعل الضرب يخفف عنها…
قنوات أطفال كثيرة تملأ القائمة، وأخيرا قناة الجزيرة تخرجني من جزيرتي المعزولة، أخبار عاجلة متتالية تمر سريعا، وصور كثيرا هنا وهناك… وإن كان من حسنة أخرى لهذه القناة فإنها ظلت ولا تزال صوت تلك البقعة الطاهرة الظاهرة على عدوها، في وقت تقوم فيه قنوات أخرى بسرد الرواية المعادية… ويا لحقارة الهدف والوسيلة والغاية!
صخب التحليلات والاتصالات، حتى ظننت للوهلة الأولى أن هناك تشويشا على القناة أو اختراقا لبثها… وما كاد عقلي يستعيد بعضا من عافيته بعد شاي مُنعنع مع ما جادت به المائدة مما صمد ويقاوم الانقراض من إدام بفعل الغلاء الفاحش الذي يقلص باستمرار قفة المغربي ويقلل الصحون فوق مائدته..
ما كاد عقلي يستعيد تركيزه بعد موجة تنبيه من الشاي “المشحر”، حتى بدأت أستوعب المشهد، وأدخل التاريخ متأخرا، وربما قد أكون آخر واحد في الكون يعلم بما وقع..
آنذاك تذكرت طلب صديقي، وتحسرت على ما بدر مني من جواب بارد في أجواء انتصار غابت عن الأمة قرونا من العض والجبر والاستعمار والفتن الداخلية ما ظهر منها وما بطن…
مشاهد عزة، وصور جهاد، ومشاعر فخر ارتبطت أخيرا بما كنا نقرأه ألما وكمدا وحسرة على مجد ضاع، وهيبة مفقودة، وبيضة مكسورة، بعد أن أحببنا الدنيا وكرهنا الموت!
كنا نقرأ عن فتح الفاروق للقدس في مشهد عزّ لم يجد معه النصارى إلا تسليم مفاتيحها للمسلمين، وقرأنا عن صلاح الدين الأيوبي وملحمة حطين واسترجاع بيت المقدس من الصليبيين، وانتشينا ونحن نقرأ شهادة الفاتح العظيم صلاح الدين الأيوبي في أجدادنا المغاربة الذين شاركوا معه في تلك الملحمة العظيمة فقد نوّه بهم وبجهادهم، ورفض عودتهم إلى بلدهم المغرب بعد فتح بيت المقدس، وقال فيهم لما سئل عن قراره ذلك: “يعملون في البحر ويفتكون في البر، أشداء على الكفار، لا يخافون طرفة عين في الدفاع عن المسلمين ومقدساتهم”.
وسمي بابان من أبواب المدينة باسم المغاربة، وسميت حارة بأكملها بحارة المغاربة في المدينة المقدسة قبل أن يهدمها الطارئون الجدد…
وظل الفؤاد فارغا إن كنا لنبديه لولا صحبة الموقنين الذين علمونا أن نربط قلوبنا بالله ونربط عليها يقينا في وعده وموعوده، ينتظر الفؤاد أن تلد أم مثل عمر فاروقٍ بين الحق والباطل، أو صلاحٍ للدين وحامٍ للقدس والأقصى، إلى أن تلا الضيف بيان طوفان الأقصى، وتحدث أبو عبيدة بتفصيل عمّا أجمله الضيف، فهجم علينا فجأة رجال نخوة وجهاد، ظننا يأسا وقنطا من رحمة الله (غفر الله لنا سوء الظن به) أن النساء عقُمت أن يلدن مثل خالد بن الوليد، حتى برز أبو خالد صادحا بالكلمة الفصل أن بدأ زمن تحرير الأقصى وأن الرجال سيدخلون المسجد كما دخله أسلافهم أول مرة وليتبروا ما علت الصهيونية أكثر من أختها الصليبية تتبيرا…
وصباح اليوم التالي وعندما شغلت محرك السيارة يوم 8 من أكتوبر أدركت أن نفسي هي التي كانت تئن ضعفا وعجزا وليس سيارتي الحديدية التي انطلقت كأن لم يكن هناك أنين السادس من أكتوبر الذي أصلحه يوم السابع من أكتوبر، ذلك اليوم العظيم الذي لن يمحى من ذاكرة المسلمين.